الله جل جلاله الرَّحْمَنُ
اسم الله الرحمن ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا ومنونا مفردا ومقترنا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه كما جاء في قوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) [الرحمن:1/2] ، وقوله : ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) [الإسراء:110] ، وقد ورد الاسم في خمسة وأربعين موضعا من القرآن اقترن في ستة منها باسمه الرحيم ، ولم يقترن بغيره في بقية المواضع ، قال تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) [الحشر:22] ، وقال : ( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ).
الله جل جلاله الرَّحْمَنُ
الرحمن في اللغة صفة مشبهة وهي أبلغ من الرحيم ، والرحمة في حقنا رقة في القلب تقتضي الإحسان إلى المرحوم ؛ إما بالعون أو بالعطف والمسامحة ، والرحمة تستدعى مرحوما فهي من صفات الأفعال ، والرحمن اسم يختص بالله سبحانه وتعالى ولا يجوز إطلاقه في حق غيره .
ومعنى اسم الله الرحمن الذي ورد في القرآن والسنة هو اتصاف المسمى برحمته لكافة خلقه بأن خلقهم ورزقهم وأمهلهم فيما خولهم واستأمنهم ، ابتلاء لهم إلى حين لقيآه ؛ فرحمته وسعت كل شيء وهي من أعظم صفاته بالنسبة لعباده ، لأنها في الدنيا شَمِلَت المؤمنين والكافرين فبها تنفتح أبواب الرجاء والأمل وتثير مكنون الفطرة وصالح العمل وتدفع أبواب الخوف واليأس وتشعر الشخص بالأمان والأمان .
والله عز وجل غلبت رحمته غضبه ، ولم يجعل الله لنا في الدنيا إلا جزءا يسيرا من واسع رحمته ، به يتراحم الناس ويتعاطفون ، وكذلك سائر الأحياء في الأرض أجمعون كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أنه سَمِع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا ، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ ).
وفي رواية أخرى عند البخاري : ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً ، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً ، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ ).
وورد عند البخاري أيضا من حديث عُمَر بن الخطاب رضى الله عنه أَنَّهُ قَالَ : ( قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي (5) ، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ (6)، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ قُلْنَا : لاَ وَاللَّهِ ، وَهِي تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا )
فالرحمة التي دل عليها اسمه الرحمن رحمة عامة تظهر في أهل الدنيا مقتضى العلة وتحقق في خلقهم غاية الحكمة ، فمن رحمته أنه أنعم عليهم وفيهم من يشكر أو يكفر فقال تعالى : } وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { [القصص:73] ، وقال : } وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً { [الفرقان:48] ، وقال : } فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { [الروم:50].
ولما كانت الرحمة التي دل عليها اسمه الرحمن رحمة عامة بالناس أجمعين في الدنيا فإن الله عز وجل خص هذا الاسم ليقرنه باستوائه على عرشه في جميع المواضع التي وردت في القرآن والسنة ، فقال تعالى : } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { [طه:5] ؛ وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضى الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ).
وذلك لأن الله فوق الخلائق أجمعين سواء كانوا مؤمنين أو كافرين ، فحياتهم قائمة بإذنه وأرزاقهم مكنونة في غيبه وبقائهم رهن مشيئته وأمره ؛ ومن ثم لا حول ولا قوة لهم إلا بقوته وحوله ، فهو الملك الذي استوى على عرشه ودبر أمر الخلائق في مملكته برحمته وحكمته قال تعالى : } الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً { [الفرقان:59].
الله جل جلاله الرَّحِيمُ
اسم الله الرحيم تحققت فيه شروط الإحصاء ، فقد ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا ومنونا ، مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، واسم الله الرحيم اقترن باسمه الرحمن كما تقدم في ستة مواضع من القرآن ، وغالبا ما يقترن اسم الله الرحيم بالتواب والغفور والرءوف والودود والعزيز ، وذلك لأن الرحمة التي دل عليها الرحيم رحمة خاصة تلحق المؤمنين ، فالله عز وجل رحمته التي دل عليها اسمه الرحمن شملت الخلائق في الدنيا ، مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم ، لكنه في الآخرة رحيم بالمؤمنين فقط .
ومما ورد في الدلالة على ثبوت اسم الله الرحيم قوله تعالى : ( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ) [فصلت:2] ، وقوله : ( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) [يّس:58] ، وكذلك قوله تعالى : ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [الحجر:50].
أما أدلة السنة فمنها ما رواه البخاري من حديث أَبِى بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي ، قَالَ : ( قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ ، وَارْحَمْنِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : ( إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَىَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ).
الله جل جلاله الرَّحِيمُ
الرحيم في اللغة صيغة من صيغ المبالغة ، فَعِيلٌ بمعنى فاعلٍ كسَمِيعٌ بمعنى سامِع وقديرٌ بمعنى قادر ، والرحيم دل على صفة الرحمة الخاصة ، والرحمة هنا بمعنى المغفرة وهي خاصة بالمؤمنين ، فالرَّحْمَنُ الرحيم بُنيت صفة الرحمة الأُولى على فَعْلاَنَ لأَن معناه الكثرة فرحمته وسِعَتْ كل شيء وهو أَرْحَمُ الراحمين ، وأَما الرَّحِيمُ فإِنما ذكر بعد الرَّحْمن لأن الرَّحْمن مقصور على الله عز وجل ، والرحيم قد يكون لغيره فجيء بالرحيم بعد استغراق الرَّحْمنِ معنى الرحْمَة لاختصاص المؤمنين بها ، كما في قوله تعالى : } وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيما ً{ [الأحزاب:43] ، وقال سبحانه : } نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ً{ [الحجر:49] ، وقال عبد الله بن عباس رضى الله عنه : هما اسمان رقيقان أَحدهما أَرق من الآخر .
والرحمة الخاصة التي دل عليها اسمه الرحيم شملت عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة فقد هداهم الله في الدنيا إلى توحيده وعبوديته ، وهو الذي أكرهم في الآخرة بجنته ومن عليهم برؤيته ، ورحمة الله لا تقتصر على المؤمنين فقط بل تمتد لتشمل ذريتهم من بعدهم تكريما لهم وسكينة لأهلهم ، قال تعالى في نبأ الخضر والجدار : } وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ { [الكهف:82] ، فالإيمان بالله والعمل على طاعته وتقواه سبب لحصول رحمته ، قال تعالى : } وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ { [آل عمران:132] ، وقال : } إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ { [المؤمنون:109] ، وقال : } وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون { [الأنعام:155].
الله جل جلاله المَلِكُ
اسم الله الملك ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا بالألف واللام مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه ، ومن ذلك ما ورد في قوله تعالى : ( هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُون َ{ [الحشر:23] ، وقوله : ( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيم ) [المؤمنون:116] .
وعند مسلم من حديث عَلِىِّ رضي الله عنه في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ : ( اللهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ .. الحديث ) (1) ، وعند البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ وَيَطْوِى السماوات بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا المَلِكُ ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ ) ، وعند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُل لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ الليْلِ الأَوَّلُ فَيَقُولُ : أَنَا المَلِكُ ، أَنَا المَلِكُ ، مَنْ ذَا الذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ .. الحديث ).
الله جل جلاله المَلِكُ
أصل الملك في اللغة الربط والشد ، قال ابن فارس : ( أصل هذا التركيب يدل على قوة في الشيء وصحة ، ومنه قولهم : ملكت العجين أملكه ملكا إذا شددت عجنه وبالغت فيه ) ، والملك هو النافذ الأمر في ملكه ، إذ ليس كل مالك ينفذ أمره وتصرفه فيما يملكه فالملك أعم من المالك ، والملك الحقيقي هو الله وحده لا شريك له ، ولا يمنع ذلك وصف غيره بالملك كما قال : } وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً { [الكهف:79] ، فهو ملك مخلوق وملكه مقيد محدود.
والملك الحق هو الذي أنشأ الملك وأقامه بغير معونة أحد من الخلق ، وصرف أموره بالحكمة والعدل والحق ، وله الغلبة وعلو القهر على من نازعه في شيء من الملك ، فالملك له الأمر والنهي في مملكته يتصرف في خلقه بأمره وفعله ، وليس لأحد عليه فضل في قيام ملكه أو رعايته ، ولذلك قال تعالى : } قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ { [سبأ:22/23] ، وهذه الآية اشتملت على نفي الوجوه التي تعلل بها المشركون في التعلق بمعبوداتهم ، فنفت الآية عن آلهتهم كل أوجه التأثير في الكون ممثلة في أربعة أشياء:
1- نفي الملك التام لانعدام ربوبيتهم فلا يخلقون في الكون شيئا ولا يدبرون فيه أمرا ، ومن ثم فالملك كله لله كما قال : } لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ { .2- نفي المشاركة لله في الملك بأن يكون لهم نصيب وله نصيب ، فنفى عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السماوات والأرض ، فقد يقول المشرك هي شريكة للملك الحق ، فقال : } وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ { .
3- نفي الظهير والمعين فقد يدعى بعض المشركين أن آلهتهم لا يملكون شيئا ولا يشاركون الله في الملك ، ولكن قد تكون له ظهيرا أو معينا وزيرا يعاون في تدبير الخلق والقيام على شئونه فقال تعالى : } وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ { .
- نفي الشفاعة عنده إلا بإذنه لأنهم تعلقوا بها إذ هي الحجة الباقية فقالوا : } مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى { ، فأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ، فهو الذي يأذن للشافع فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها فقال سبحانه : } وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ { .
والآيات في ذلك أكثر من أن تحصى وكلها تبين أن الملك الحق هو الله وأنه لا خالق ولا مدبر للكون سواه ، وأنه هو القائم بسياسة خلقه إلى غايتهم ، وملكه هو الحق الدائم له.
الله جل جلاله القُدُّوسُ
ورد الاسم في القرآن مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه في موضعين من القرآن ، الأول في قوله تعالى : ( هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [الحشر:23] ، والثاني في قوله : ( يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ) [الجمعة:1] ، ومن السنة ما ورد عند مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : ( سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ ) ، وفي سنن أبي داوود وقال الألباني حسن صحيح من حديث شَرِيقٌ الهَوْزَنِي رضي الله عنه عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت : ( كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا هَبَّ مِنَ الليْلِ كَبَّرَ عَشْرًا وَحَمِدَ عَشْرًا ، وَقَالَ : سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرًا ، وَقَالَ : سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ عَشْرًا وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا وَهَللَ عَشْرًا .. الحديث ).
الله جل جلاله القُدُّوسُ
التقديس في اللغة التطهير ، والقدس تعني الطهر ، ومنها سميت الجنة حظيرة القدس كما ورد عند البزار في مسنده وهو صحيح لغيره من حديث أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عن رب العزة : ( من ترك الخمر وهو يقدر عليه لأسقينه منه في حظيرة القدس ومن ترك الحرير وهو يقدر عليه لأكسونه إياه في حظيرة القدس ).
وسمى جبريل عليه السلام روح القدس في قوله تعالى : } قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ { [النحل:102] ، والقداسة تعني الطهر والبركة ، وقدس الرجل ربه أي عظمه وكبره وطهر نفسه بتوحيده وعبادته ومحبته وطاعته , ومنها قول الملائكة : } وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ { [البقرة:30] فالقدوس لغة يعني المطهر المنزه عن كل نقص المتصف بكل أنواع الكمال.
واسم الله القدوس يعني المنفرد بأوصاف الكمال المنزه المطهر الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، والتقديس الذي هو خلاصة التوحيد الحق إفراد اللَّه سبحانه بذاته وصفاته وأفعاله عن الأقيسة التمثيلية والقواعد الشمولية والقوانين التي تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم ، فالله عز وجل نزه نفسه عن كل نقص فقال : } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ { [الشورى:11] ، فلا مثيل له نحكم على كيفية أوصافه من خلاله ، ولا يستوي مع سائر الخلق فيسري عليه قانون أو قياس أو قواعد تحكمه كما تحكمهم لأنه القدوس المتصف بالتوحيد المنفرد عن أحكام العبيد ، ثم أثبت الله لنفسه أوصاف الكمال والجمال فقال بعد نفي النقص مطلقا وجملة : } وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ { [الشورى:11] ، فلا يكون التقديس تقديسا ولا التنزيه تنزيها إلا بنفي وإثبات .
الله جل جلاله السَّلامُ
لم يرد الاسم في القرآن إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى : ( هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [الحشر:23] ، وفي هذا الموضع ورد مطلقا معرفا مرادا به العلمية ومسندا إليه المعنى محمولا عليه ودالا على الوصفية وكمالها .
وعند البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( كُنَّا إِذَا صَليْنَا خَلفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلنَا : السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ ، فَالتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلاَمُ .. الحديث ) ، وفي صحيح مسلم من حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وَقَالَ : اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ) ، وفي صحيح الجامع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم ).
الله جل جلاله السَّلامُ
السلام في اللغة مصدر استعمل اسما للموصوف بالسلامة ، فعله سلم يسلم سلاما وسلامة ، والسلامة الأمان والاطمئنان والحصانة البراءة من كل آفة ظاهرة وباطنة والخلاص من كل مكروه وعيب ، ومادة السلام تدل على الخلاص والنجاة قيل للجنة دار السلام لأنها دار السلامة من الآفات ، قال تعالى : } لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ { [الأنعام:127] ، وقال بعضهم : ( السلام ههنا الله لأنها دار الله عز وجل فأضيفت إليه تفخيما لها ودليله قوله تعالى : } السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ { [الحشر:23] ) ، وقيل : سميت دار السلام لأنها دار السلامة الدائمة التي لا تنقطع ولا تفنى وهي دار السلامة من الموت والهرم والأسقام .
من السلامة أيضا السلام في التحية الخالصة كما ورد عند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ، ثُمَّ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ ، فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ، فَقَالُوا السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ... الحديث ).
والله عز وجل هو السلام لسلامته من العيب والنقص ، فهو الذي سلم في ذاته بنورها وسبحاتها وجلالها ، كما ورد عند مسلم من حديث أَبِي مُوسَى رضى الله عنه مرفوعا : ( حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) ، وهو الذي سلم في صفاته بكمالها وجمالها وعلو شأنها ، وسلم أيضا في أفعاله بطلاقة قدرته ونفاذ مشيئته ، وكمال عدله وبالغ حكمته ، وهو داعي العباد إلى السلام وإفشاء السلام كما قال : } وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً { [الفرقان:63] ، وهو الذي يدعو إلى سبل السلام باتباع منهج الإسلام قال تعالى : } يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ { [المائدة:16] ، وهو الذي يدعو عباده إلى دار السلام ويبلغ الموحدين منهم إليها كما قال : } وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ { [يونس:25] ، وقال : } سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ { [يس:58] ، فكل سلامة منشأها منه وتمامها عليه ونسبتها إليه.
الله جل جلاله الأَوَّلُ
اسم الله الأول سمى الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في نص واحد من النصوص القرآنية ، قال تعالى : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الحديد:3] ، وورد في السنة عند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال : ( اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شيء وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ ).
الله جل جلاله الآخِرُ
اسم الله الآخر ورد مع الاسم السابق في قوله تعالى : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الحديد:3] ، وكذلك ورد في السنة في دعاء النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم الذي تقدم : ( وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء ).
الله جل جلاله الظَّاهِرُ
ورد الاسم مقترنا بالاسمين السابقين في قوله تعالى : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الحديد:3] ، وفي السنة أيضا دعاء النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم الذي تقدم في اسمه الأول : ( وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء ).
الله جل جلاله البَاطِنُ
ورد الاسم مع الأسماء الثلاثة السابقة في قوله تعالى : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الحديد:3] ، وكذلك ورد في السنة في دعاء النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم الذي تقدم في اسمه الأول : ( وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء ).
الله جل جلاله المُؤْمِنُ
المؤمن في اللغة اسم فاعل للموصوف بالإيمان ، وأصله أمن يأمن أمنا ، والأمن ما يقابل الخوف ، والإيمان في حقنا هو تصديق الخبر تصديقا جازما وتنفيذ الأمر تنفيذا كاملا ، فمن الأول قوله تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام لما أخبروا والدهم عليه السلام عن خبره : } وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ { [يوسف:17] ، ومن الثاني ما رواه البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضى الله عنه في وفد عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَ صلى الله عليه و سلم قَالَ لهم : ( أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ ) (1) ، أما اسم الله المؤمن ففيه عدة أقوال كلها يدل عليها الاسم ويشملها ، لأنها جميعا من معاني الكمال الذي اتصف به رب العزة والجلال :
القول الأول : أنه الذي أمَّنَ الناس ألا يظلم أحدا من خلقه ، وأمن من آمن به من عذابه ، فكل سينال ما يستحق ، قال تعالى : } إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيما ً{ [النساء:40] ، وقال : } وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً { [الكهف:49].
القول الثاني : أن المؤمن هو المجير الذي يجير المظلوم من الظالم ، بمعنى يؤمنه وينصره ، كما قال تعالى : } قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ { [المؤمنون:88] ، وقال تعالى : } قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ { [الملك:28] ، لن يجدوا ملاذا ولا مأمنا ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم كَانَ يَقُولُ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ ) , وعند البخاري ومسلم من حديث أَبِي مُوسَى الأشعري رضى الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ، قَالَ ثُمَّ قَرَأَ : } وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهي ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ { ).
القول الثالث : أن المؤمن هو الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه ، لأنه الواحد الذي وحد نفسه بشهادته فقال : } شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ { [آل عمران:18] ، وهذه الآية تحمل أعظم المعاني في كشف حقيقة التوحيد وكيف خلق العباد من أجله ؟
وبيان ذلك أننا لو فرضنا بقياس الأولى ولله المثل لأعلى طلابا وأساتذة ومقررا واختبارا ، وبعد الاختبار تنازع المجتهدون من الطلاب مع الكثرة الغالبة في صحة الجواب ، فزعم الخاسرون أنهم على الصواب وأن إجابتهم توافق المنهج المقرر في الكتاب ، وأن المجتهدين من الطلاب هم المخطئون فطالبوا التحاكم إلى شهادة أستاذهم ، فشهد بخطئهم وصحة جواب المجتهدين ، فكذبوا أستاذهم وطالبوا بشهادة الأعلى من المتخصصين ، فشهدوا لأستاذهم وللمجتهدين ، فكذبوهم وطالبوا بشهادة من وضع الاختبار ومن يرجع إليه القرار ، وأقروا على أنفسهم أن شهادته ملزمة لهم وأنها فصل المقال ، فشهد بصحة جواب المتخصصين والأساتذة والمجتهدين وكانت شهادته لهم تصديقا وإعلاما وإخبارا وحكما عدلا وقولا فصلا لا مجال لرده ولا معقب لقوله .
إذا علم ذلك فالله عز وجل وله المثل الأعلى جعل قضية الخلق هي شهادة ألا إله إلا الله وأنه لا معبود بحق سواه ، وجعل أحكام العبودية أو الأحكام الشرعية هي المنهج المقرر على طلاب السعادة في الدنيا والآخرة كما قال : } قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ { [البقرة:38].
فإذا أهمل طلاب السعادة منهج الهداية وجعلوا سعادتهم في عبودية الشهوات والشبهات ، وتناسوا مرحلة الابتلاء والكفاح والرغبة في النجاح والفلاح وتسببوا في ضلالهم بمخالفتهم الرسل ، ثم أعلنوا زورا وبهتانا أنهم كانوا على الصواب ، وأنهم الكثرة الغالبة عند الحساب ، وأنهم أجابوا بادعائهم وفق ما تقرر في الكتاب فكذبوا على أنفسهم كما ذكر الله في شأنهم : } ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُون { [الأنعام:23/24].
وعند طرح القضية طلبت الأطراف المعنية شهادة داعيتهم أو أولو العلم من قومهم وهم الذين نقلوا لهم مراد ربهم ، فشهد أولو العلم بضلال المشركين وخطئهم وصحة ما جاء عن رسلهم ، فما كان من المشركين إلا أن كذبوهم وطالبوا بمن هو أعلى ليشهد على صحة جوابهم واستحقاقهم للنجاح ، فشهدت الملائكة أيضا بخطئهم وصحة ما جاء عن رسلهم فكذبوهم وطالبوا شهادة من وضع الاختبار ومن يرجع إليه الفصل والقرار ، وأقروا على أنفسهم أن شهادته هي الفيصل في القضية وأن حكمه ملزم لكل الأطراف المعنية ، فقراره للجميع إلزام ، وشهادته قضاء وإعلام وحكمه حكم لا يرد ، فهو الحد الذي يفصل بين المتنازعين ويميز بين المؤمنين والمشركين ، فكان قضاء أحكم الحاكمين وله المثل الأعلى أنه شهد بصدق المرسلين وخسران المشركين تصديقا للموحدين وإنصافا لمذهبهم وتكذيبا لأعدائهم وتصديقا للملائكة وأولي العلم ، فهو سبحانه المؤمن الذي شهد أنه لا إله إلا هو ، وأنها كلمة الحق وحقيقة التوحيد ، وأنها رد على جميع من ضل من العبيد ، فتضمنت كلمة التوحيد أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به .
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت عند السلف أربع مراتب ، علمه سبحانه بذلك وتكلمه به وإعلامه وإخباره لخلقه به وأمرهم وإلزامهم به ، وعبارات السلف في الشهادة تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار ، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها ، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره ، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه
القول الرابع : أن المؤمن هو الذي يصدق مع عباده المؤمنين في وعده ، ويصدق ظنون عباده الموحدين ولا يخيب آمالهم ، قال تعالى : } قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [آل عمران:95] ، وقال : } ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ { [الأنبياء:9] ، وقال : } إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ { [القمر:55] ، وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم قال : ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي ، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَي بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ) ، وعند النسائي وصححه الألباني من حديث ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنه أنه قَالَ : ( قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى دَرَجَةِ الْكَعْبَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ) ، فالمؤمن في أسماء الله هو الذي يصدق في وعده ، وهو عند ظن عبده لا يخيب أمله ولا يخذل رجاءه ، وجميع المعاني السابقة حق يشملها الاسم .
الله جل جلاله السَّمِيعُ
سمى الله نفسه السميع في كثير من النصوص القرآنية والنبوية ، وقد ورد فيها الاسم مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، فمن القرآن قوله تعالى : ( ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) [الشورى:11] ، وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) [النساء:58] ، وقد ورد الاسم مقترنا باسم الله العليم في أكثر من ثلاثين موضعا ، ومقترنا باسم الله البصير في أكثر من عشرة مواضع ، ومقترنا باسم الله القريب في قوله تعالى : ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) [سبأ:50] .
وفي السنة ورد عند البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : كنّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سَفَر ، فكنا إذا عَلونا كبَّرنا ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( أيها الناس أربَعوا على أنفُسِكم فإنكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائباً ، ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً ).
وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح في صلاته قبل القراءة بقوله : ( أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ).
الله جل جلاله البَصِيرُ
اسم الله البصير ورد مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ومقترنا باسم الله السميع في آيات كثيرة كقوله تعالى : ( سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ليْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) [الإسراء:1] ، وقوله : ( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) [الحج:75] ، وقد ورد مطلقا منونا مفردا في موضعين ومقترنا بالسميع في ستة مواضع ، قال تعالى : ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ) [الفرقان:20] .
أما ما ورد في السنة فقد تقدم الحديث في الاسم السابق : ( فإنكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائبا ، ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً ) ، وورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قْرَأ هَذِهِ الآيَةَ : ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) ، ثم قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ .
الله جل جلاله المَوْلَى
اسم الله المولى ورد في القرآن علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، قال تعالى : ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) [الأنفال:40] ، وقال سبحانه : ( وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) [الحج:78] ، وقد ورد مقيدا في قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ) [محمد:11] ، وقوله : ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [التوبة:51].
وعند البخاري من حديث الْبَرَاء بْن عَازِبٍ رضي الله عنه أن أبا سفيان قال يوم أحد : ( إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم : أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ ؟ قَالَ : قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ ).
الله جل جلاله النَّصِيرُ
ورد الاسم مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ومقرونا باسم الله المولى في موضعين من القرآن ، قال تعالى : ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) [الأنفال:40] ، وقال : ( وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) [الحج:78] ، وقد ورد الاسم مقيدا في غير موضع من القرآن كقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) [التوبة:116] ، وقوله : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ) [الفرقان:31] ، وعند أبي داود والترمذي وصححه الألباني من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا قَالَ : ( اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي ، بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ ).
لله جل جلاله السميع
السميع في اللغة على وزن فَعِيل من أبْنِيةِ المُبالغة فعله سَمِعَ يسَمْع سَمعاً ، والسَّمْعُ في حقنا ما وَقَر في الأُذن من شيء تسمعه ، والسمع صفة ذات وصفة فعل ، فصفة الذات يعبر به عن الأذن والقوة التي بها يدرك الأصوات كما في قوله : } خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ { [البقرة:7] ، أما صفة الفعل فتارة يكون السمع بمعنى الاستماع والإنصات كقوله تعالى : } وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا { [الأحقاف:29] ، وقوله أيضا : } نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُوراً { [الإسراء:47] ، وتارة يعبر به عن الفهم كما قال تعالى : } وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا { [الأنفال:31] ، وكقوله : } قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا { [البقرة:93] ، أي : فهمنا قولك ولم نأتمر بأمرك ، وتارة يعبر به عن الطاعة كقوله : } وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا { [البقرة:285] ، أي : فهمنا وأتمرنا .
والسميع سبحانه هو المتصف بالسمع كوصف ذات ووصف فعل ، فوصف الذات وصف حقيقي نؤمن به على ظاهر الخبر في حقه ، وظاهر الخبر ليس كالظاهر في حق البشر كما يتوهم من تلوث عقله بالتشبيه والتعطيل ، لأننا ما رأينا الله ولا ندري كيفية سمعه ، وما رأينا مثيلا لذاته وصفته ، وليس إثبات الصفات تشبيها أو تجسيما كما أشار بعضهم على الخليفة المأمون أن يكتب على ستر الكعبة : ( ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم ) ، بدلا من قول الله تعالى : } ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { ، فاعتقد أن إثبات السمع في حق الله تشبيه وأنه لا بد أن يكون سمع الله بأذن كما هو شأن الإنسان ، ومن ثم حرف الكلام عن موضعه وكذب بالقرآن وهذا باطل لأن الله يسمع بالكيفية التي تناسب عظمته وهو الذي يعلم حقيقة سمعه وكيفيته ، قال الأَزهري : ( والعجب من قوم فسَّروا السميعَ بمعنى المسْمِع فِراراً من وصف اللَّه بأَن له سَمْعاً ، وقد ذكر اللَّه الفعل في غير موضع من كتابه فهو سَمِيع ذو سَمْعٍ بلا تكييفٍ ولا تشبيه بالسمع من خلقه ، ولا سَمْعُه كَسَمْعِ خلقه ، ونحن نصف اللَّه بما وصف به نفسه بلا تحديد ولا تكييف ، ولست أُنكر في كلام العرب أن يكون السميع سامِعاً ويكون مُسْمِعاً ).
وقد روى أبو داود وصححه الألباني من حديث سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ : ( سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا { إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : } سَمِيعًا بَصِيرًا { ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَقْرَؤُهَا وَيَضَعُ إِصْبَعَيْهِ ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ : قَالَ الْمُقْرِئُ يَعْنِي : } إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ { يَعْنِي أَنَّ لِلَّهِ سَمْعًا وَبَصَرًا ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ ).
ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم في فعله لا يعني أن سمع الله كسمعه أو بصره كبصره أو أن الظاهر في حق الله كالظاهر في حقة ، وإنما أراد صلى الله عليه و سلم أن يثبت لله السمع والبصر كوصف ذات له على ما يناسب كماله وجلاله ، قال إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ : ( إِنَّمَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ إِذَا قَالَ يَدٌ كَيَدٍ أَوْ مِثْلُ يَدٍ أَوْ سَمْعٌ كَسَمْعٍ أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ ، فَإِذَا قَالَ سَمْعٌ كَسَمْعٍ أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ فَهَذَا التَّشْبِيهُ وَأَمَّا إِذَا قَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَدٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَلاَ يَقُولُ كَيْفَ وَلاَ يَقُولُ مِثْلُ سَمْعٍ وَلاَ كَسَمْعٍ فَهَذَا لاَ يَكُونُ تَشْبِيهًا وَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : } ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { ) .
أما السمع كوصف فعل لله فهو الذي يتعلق بمشيئة الله عز وجل ، أو على المعنى الخاص الذي فيه إجابة الدعاء والإسماع لمن يشاء ، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضى الله عنه مرفوعا : ( وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ) (5) ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضى الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ ) (6) ، وكقوله تعالى : } وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ { [فاطر:22] .
لله جل جلاله البصير
البَصِيرٌ في اللغة من أبنية المبالغة ، فعيل بمعنى فاعل ، فعله بَصُرَ يُبصِرُ ، وبَصُرَ به بَصَراً وتَبَصَّرَهُ ، وأبصَر يُبصِرُ إبْصَارا قال تعالى : } فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ { [الأنعام:104] وتَبَاصَرَ القومُ أَبْصَرَ بعضهم بعضاً ، والبَصَرُ يقال للعَيْنُ إِلاَّ أَنه مذكر ، ويقال البَصَرُ أيضا لحِسُّ العَيٌّن والنظر ، أو القوة التي تبصر بها العين أو حاسة الرؤْية ، والجمع أَبْصارٌ ، والتَّبَصُّر التَّأَمُّل والتَّعَرُّفُ والتعريف والإِيضاح ، والبَصيرة الحجةُ والاستبصار في الشيء ، وهي اسم لما يعقد في القلب من الدين وتحقيق الأَمر ، وقيل : البَصيرة الفطنة ، ورجلٌ بَصِيرٌ بالعلم عالم به ، وبَصرُ القلب نَظَرهُ وخاطره
والبصير سبحانه هو المتصف بالبصر ، والبصر صفة من صفات ذاته تليق بجلاله يجب إثباتها لله دون تمثيل أو تكييف أو تعطيل أو تحريف ، فهو الذي يبصر جميع الموجودات في عالم الغيب والشهادة ويرى الأشياء كلها مهما خفيت أو ظهرت ومهما دقت أو عظمت ، وهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور .
وهو البصير الذي يمن على المؤمنين بكرمه وفضله وينعم عليهم بلقائه ورؤيته ، ولا يكلم الكافرين ولا ينظر إليهم بلطفه ورحمته ، فهم مخلدون في العذاب محبوبون عن رؤيته ، قال تعالى : } أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { [آل عمران:77] ، وقال : } كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ { [المطففين:15] ، وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن النَّبِيِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهْوَ كَاذِبٌ ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ ).
لله جل جلاله المولى
والمَوْلَى في اللغة اسمٌ يقع على عدة معان ، فالمولى يطلق على الرَّب والمَالِك والسَّيْد والمُنْعم والمُعْتق والنَّاصِر والمُحِب والتَّابِع والجَار وابن العَمّ والحَلِيف والعَقِيد والصِّهْر والعَبْد والمُنْعم عليه ، والفرق بين الولي والمولى أن الولي هو من تولى أمرك وقام بتدبير حالك وحال غيرك وهذه من ولاية العموم ، وأما المولى فهو من تركن إليه وتعتمد عليه وتحتمي به عند الشدة والرخاء وفي السراء والضراء ، وهذه من ولاية الخصوص .
والمولى سبحانه هو من يركن إليه الموحدون ويعتمد عليه المؤمنون في الشدة والرخاء والسراء والضراء ، ولذلك خص الولاية هنا بالمؤمنين ، قال تعالى : } ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ { [محمد:11] ، وقال : } وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ { [الأنفال:40] ، وقال : } قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ { [التوبة:51] .
والله عز وجل جعل ولايته للموحدين مشروطة بالاستجابة لأمره والعمل في طاعته وحبه والسعي إلى مرضاته وقربه ، فمن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : ( إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ).
لله جل جلاله النصير
والنصير في اللغة من النصرة ، نَصَرَهُ على عدوه ينصره نَصْراً ، والاسم النُّصْرَةُ والنَّصِيرُ ، وجمعه أَنْصَارٌ كشريف وأَشراف ، والنَّصِير فعيل بمعنى فاعِل أَو مفعول لأَن كل واحد من المتَناصِرَيْن ناصِر ومَنْصُور ، وقد نصَره ينصُره نصْراً إِذا أَعانه على عدُوّه وشَدَّ منه ، واسْتَنْصَرَهُ على عدوه سأله أن ينصره عليهم ، وتَنَاصَرَ القوم نصر بعضهم بعضا ، وانْتَصَرَ منه انتقم منه .
وعند البخاري من حديث أَنَسٍ رضى الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا ، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ : تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ ) وتفسيره أَن يمنَعه من الظلم إِن وجده ظالِماً ، وإِن كان مظلوماً أَعانه على ظالمه ) ، وعند النسائي وحسنه الألباني من حديث بَهْزَ بْنَ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ مُحَرَّمٌ أَخَوَانِ نَصِيرَانِ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مُشْرِكٍ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ عَمَلاً أَوْ يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ).
والله عز وجل هو النصير الذي ينصر رسله وأتباعهم في الدنيا والآخرة ، كما قال سبحانه : } إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ { [غافر:51] ، وهو الذي ينصر المستضعفين ويرفع الظلم عن المظلومين كما قال : } أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير { [الحج:39] ، والذي يؤيد بنصره ما يشاء ولا غالب لمن نصره ولا ناصر لمن خذله ، كما قال : } إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ { [آل عمران:160] ، وقال : } أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ { [الملك:20].
الله جل جلاله العَفُوُّ
سمى الله نفسه العفو على سبيل الإطلاق في قوله تعالى : ( إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ) [النساء:149] ، وقوله : ( فَأُولَئِكَ عَسَي اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ) [النساء:99] وقوله : ( ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) [الحج:60] ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو ؟ قَالَ : تَقُولِينَ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ).
وعند أحمد وحسنه الألباني من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : ( إِنَّ أَوَّلَ رَجُلٍ قُطِعَ فِي الإِسْلاَمِ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ أُتِي بِهِ إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا سَرَقَ ، فَكَأَنَّمَا أُسِفَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَاداً ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَي يَقُولُ مَا لَكَ ؟ فَقَالَ : وَمَا يَمْنَعُنِي وَأَنْتُمْ أَعْوَانُ الشَّيْطَانِ عَلَي صَاحِبِكُمْ ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَفْوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ ، وَلاَ يَنْبَغِي لِوَالِي أَمْرٍ أَنْ يُؤْتَي بِحَدٍّ إِلاَّ أَقَامَهُ ، ثُمَّ قَرَأَ : ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).
الله جل جلاله القَدِيرُُ
ورد اسم الله القدير في القرآن والسنة ، قال تعالى : ( يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ ) [الروم:54] ، فالاسم ورد في الآية معرفا مطلقا مقترنا باسم الله العليم ، وهو الموضع الوحيد في القرآن الذي ورد معرفا بالألف واللام ، وقد ورد مطلقا منونا في ثلاثة مواضع ، منها قوله تعالى : ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [الممتحنة:7].
أما بقية المواضع في القرآن والتي تزيد على ثلاثين موضعا فقد ورد الاسم مقرونا بالعلو والفوقية المطلقة على كل شيء ، مما يزيد الإطلاق كمالا على كمال كما ذكرنا ذلك في ضوابط الإحصاء ، قال تعالى : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [آل عمران:26] ، وفي صحيح البخاري من حديث مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ : ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ ).
الله جل جلاله اللَّطِيفُ
من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالى : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) [الملك :14] ، وقوله سبحانه : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفا خَبِيرا ) [الأحزاب34] ، ولم يقترن اسم الله اللطيف إلا باسمه الخبير ، وورد الاسم مقيدا في قوله تعالى : ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) [يوسف:100] ، وكذلك قوله : ( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) [الشورى:19] ، وقد ورد الاسم في السنة في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : ( لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللطِيفُ الْخَبِيرُ ).
الله جل جلاله الخَبِيرُ
اسم الله الخبير ورد في الكتاب والسنة على سبيل الإطلاق والإضافة مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه في نصوص كثيرة ، ففي القرآن ورد مطلقا معرفا مقترنا بثلاثة أسماء هي الحكيم كما في قوله تعالى: ( وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) [الأنعام:18] ، واللطيف كما في قوله سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) [الأنعام:103] ، ومقترنا باسم الله العليم في قوله تعالى : ( فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ ) [التحريم:3] ، وورد الاسم مطلقا منونا في نصوص كثيرة منها قوله تعالى : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) [الأحزاب:34] ، وقد ورد الاسم في السنة عند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : ( لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللطِيفُ الْخَبِيرُ ).
الله جل جلاله العفو
العَفُوُّ في اللغة على وزن فَعُولٌ من العَفْوِ ، والعفو هو التَّجاوُزُ عن الذنب وتَرْكُ العِقاب عليه ، وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس ، وهو من صيغ المُبالَغةِ ، يقال : عَفا يَعْفُو عَفْواً فهو عافٍ وعَفُوٌّ ، وكلُّ من اسْتَحقَّ عندك عُقُوبةً فتَرَكْتَها فقد عَفَوْتَ عنه (1)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضى الله عنه قال : ( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ ؟ فَصَمَتَ ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلاَمَ فَصَمَتَ فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ : ( اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً ) (2) ، فالعفو هو ترك الشيء وإزالته ، وقوله تعالى : } عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِين َ{ [التوبة:43] أي مَحا اللَّهُ عنكَ هذا الأمر وغفر لك ، والعفو مأْخوذ من قولهم عَفَت الرياحُ الآثارَ إِذا دَرَسَتْها ومَحَتْها .
والعفو يأتي أيضا على معني الكثرة والزيادة ، فعَفْوُ المالِ هو ما يَفْضُلُ عن النَّفَقة كما في قوله تعالى : } وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ { [البقرة:219] ، فالعَفْوُ الكثرة والفَضْلُ ، وقد أُمِرُوا أَن يُنْفِقوا الفَضْل في بداية الأمر إِلى أَن فُرِضَت الزكاةُ ، وعَفا القوم ُ: كَثُرُوا وعَفا النَّبتُ والشَّعَرُ وغيرُه يعني كثُرَ وطالَ ، ومنه الأَمَرَ بإِعْفاءِ اللِّحَى كما ورد عند البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( أنْهَكُوا الشَّوَارِبَ ، وَأَعْفُوا اللِّحَى ) (3) ، ومعنى إعفاء اللحية أَن يُوفَّر شَعَرُها ويُكَثَّر ولا يُقَص َّ كالشَّوارِبِ من عَفا الشيءُ إِذا كَثُرَ وزاد ، وقوله تعالى : } خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ{ [الأعراف:199] ، العَفْو هنا هو الفَضْلُ الذي يجِيءُ بغيرِ كُلْفَةٍ ، والمعنى اقْبَلِ المَيْسُورَ مِنْ أَخْلاقِ الناسِ ولا تَسْتَقْصِ عليهم ، وقد أَمَرَ اللَّهُ نَبيَّه أَن يأْخُذ العَفْوَ من أَخْلاقِ الناسِ ، كما ورد عند البخاري من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضى الله عنه قَالَ : ( أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و سلم أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلاَقِ النَّاسِ ) (4)، والعفو هو السَّهْل المُيَسَّر أَي أَمرَه أَن يَحْتَمِل أَخْلاقَهُم ويَقْبلَ منها ما سَهُل وتَيَسَّر ولا يسْتَقْصِيَ عليهم .
والله عفو يحب العفو ويصفَحُ عن الذنوبِ ويستر العيوب ، يعفو عن المُسيء كَرَمًا وإحسانًا ، ويفتح واسع رحمته فضلا وإنعاما حتى يزول اليأس من القلوب وترجوا مقلب القلوب ، قال القرطبي : ( العفو عفو الله جل وعز عن خلقه وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه فالعفو محو الذنب ).
الله جل جلاله القدير
القدير في اللغة من صيغ المبالغة لمن اتصف بالقدرة فعله قَدرَ يقَدر تقديراً ، قال ابن منظور : ( القادر والقَدِيرُ من صفات الله عز وجل يكونان من القُدْرَة ويكونان من التقدير ، وقوله تعالى : } إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { [البقرة:148] من القُدْرة ، فالله عز وجل على كل شيء قدير ، والله سبحانه مُقَدِّرُ كُلِّ شيء وقاضيه ) (6) ، قال ابن الأثير : ( في أسماء الله تعالى القادِرُ والمُقْتَدِرُ والقَدِيرُ ، فالقادر اسم فاعل من قَدَرَ يَقْدِرُ والقَدِير فعيل منه ، وهو للمبالغة ، والمقتدر مُفْتَعِلٌ من اقْتَدَرَ ، وهو أبلغ )
وقال الزجاج : ( القدير أبلغ في الوصف من القادر ، لأن القادر اسم الفاعل من قدر يقدر فهو قادر ، وقدير فعيل ، وفعيل من أبنية المبالغة ).
والقدير سبحانه وتعالى هو الذي يتولى تنفيذ المقادير ويخلقها على ما جاء في سابق التقدير ؛ فمراتب القدر أربع مراتب العلم والكتابة والمشيئة والخلق ، والمقصود بهذه المراتب المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى الواقع المشهود ، وهذه المراحل تسمى عند السلف الصالح مراتب القدر ، فلا بد لصناعة الشيء من العلم والكتابة والمشيئة ومباشرة التصنيع والفعل ، وإذا كان المُصَنِّعَ الذي يشيد البنيان لا بد أن يبدأ مشروعه أولا بفكرة في الأذهان ومعلومات مدروسة بدقة وإتقان ، درسها جيدا وقام بتقدير حساباته وضبط أموره وإمكانياته ، ثم يقوم بكتابة هذه المعلومات ويخط لها في بضع ورقات أنواعا من الرسومات التي يمكن أن يخاطب من خلالها مختلف الجهات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئته أو إرادته في التنفيذ وتوقيت الفعل إن توفرت لديه القدرة والإمكانيات ، ثم يبدأ في التنفيذ إلى أن ينتهي البنيان كما قدر له في الأذهان ، فإذا كانت هذه مراحل تصنيع الأشياء بين المخلوقات بحكم العقل والفطرة ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر من باب أولى ، وهي عند السلف المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهي عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود .
فالقادر سبحانه هو الذي يقدر المقادير في علمه ، وعلمه المرتبة الأولى من قضائه وقدره ، حيث قدر كل شيء قبل تصنيعه وتكوينه ، ونظم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، فالقادر يدل على التقدير في المرتبة الأولى ، أما القدير فيدل على القدرة وتنفيذ المقدر في المرتبة الرابعة ، فالقدير هو الذي يخلق وفق سابق التقدير ، والقدر من التقدير والقدرة معا ، فبدايته في التقدير ونهايته في القدرة وتحقيق المقدر ، ولذلك يقول تعالى : } وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً { [الأحزاب:38] ، فالقدير هو المتصف بالقدرة .
ويذكر ابن القيم أن القضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته ، ولهذا قال الإمام أحمد : ( القدر قدرة الله ) ، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من الإمام أحمد غاية الاستحسان ، ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين : فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة ، وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العبادة مقدورة لله تعالى ، وصرحت بأن الله لا يقدر عليها ، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب وتوحيده في اسمه القدير وأنكرت الأخرى كمال علمه وتوحيده في اسمه القادر .
الله جل جلاله اللطيف
اللطيف في اللغة اسم الفاعل من لطف فهو لطيف ، فعله لطف يلطف لطفا ولطافة ، ولطف الشيء رقته واستحسانه وخفته على النفس ، أو لطف الشيء احتجابه وخفاؤه ، وعند البخاري من حديث عائشة حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا قالت : ( وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَرَى مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم اللُّطْفَ الذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ ) ، فاللطف الرقة والحنان والرفق.
واللطيف في أسماء الله تعالى هو الذي اجْتَمع له العِلْمُ بدَقَائق المصَالح وإيصَالها إلى مَن قدّرها له مِن خَلْقه ، والرّفْق في الفِعْل والتنفيذ ، يُقال لَطَف به وله ، فقوله : } اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ { لطف بهم ، وقال : } إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ { لطف لهم ، والله لطيف بعباده رفيق بهم قريبٌ منهم ، يعامل المؤمنين بعطف ورأفة وإحسان ، ويدعو المخالفين مهما بلغ بهم العصيان إلى التوبة والغفران ، فالله لطيف بعباده يعلم دقائق أحوالهم لا يخفى عليه شيء مما في صدورهم ، كما قال سبحانه : } أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ { [الملك :14] ، وقال لقمان لابنه وهو يعظه : } يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [لقمان16] ، واللطيف هو الذي ييسر للعباد أمورهم ويستجيب دعائهم فهو المحسن إليهم في خفاء وستر من حيث لا يعلمون ، نعمه سابغة ظاهرة لا ينكرها إلا الجاحدون ، وهو الذي يرزقهم بفضله من حيث لا يحتسبون : } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ{ [الحج63] ، وقال : } اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ { [الشورى19] ، كما أنه يحاسب المؤمنين حسابا يسيرا بفضله ورحمته أو يحاسب غيرهم من المخالفين وفق عدله وحكمته .
ومن المعاني اللغوية للطيف هو الذي لطف عن أن يدرك كما في قوله : } فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَي طَعَاما فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدا { [الكهف19] ، وهي أيضا من المعاني التي يشملها اسمه اللطيف فقد دل على لطف الحجاب لكمال الله وجلاله ، فإن الله لا يرى في الدنيا لطفا وحكمة ويرى في الآخرة إكراما ومحبة ، وإن لم يدرك بإحاطة من قبل خلقه ، ولو رآه الناس في الدنيا جهارا لبطلت الحكمة وتعطلت معاني العدل والرحمة ، ولذلك فإن الله تعالى قال عن رؤية الناس له في الدنيا : } وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ { ، وقال سبحانه : } لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ { وعند مسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه و سلم : ( تَعَلمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَل حَتَّى يَمُوتَ ) ، لأن الدنيا خلقت للابتلاء ، أما الآخرة فهي دار الحساب الجزاء حيث يكشف فيها الغطاء ويرفع فيها الحجاب ويلطف الله بالموحدين عند الحساب ، وقد بين الله في الكتاب ما فيه عبرة للغافلين وذوي الألباب : } لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ { [قّ:22] ، وفي شأن الموحدين قال تعالى عن لطفه وإكرامه وإحسانه وإنعامه : } وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {.
الله جل جلاله الخبير
الخبير في اللغة من مباني المبالغة ، فعله خَبَرَ يَخْبُر خُبْراً وخُبْرَةً وخِبْراً ، وخَبُرْتُ بالأَمر أَي علمته ، وخبَرْتُ الأَمرَ أَخْبُرُهُ إِذا عرفته على حقيقته ، وعند مسلم من حديث أبي موسى رضى الله عنه أنه قال لعائشة رضي الله عنها : ( فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ ؟ قَالَتْ : عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ ) ، تعني : سألت من يعلم الجواب بتمامه فالخَبِيرُ الذي يَخْبُرُ الشيء بعلمه.
والخبرة أبلغ من العلم لأنها علم وزيادة ، فالخبير بالشيء من عَلِمَه وقام بمعالجته وبيانه وتجربته وامتحانه فأحاط بتفاصيله الدقيقة وألم بكيفية وصفه على الحقيقة.
والخبير في أسماء الله هو العَالِم بما كَان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون ، وليس ذلك إلا لله ، فهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا تتحرك حركة إلا بعلمه ، قدر أمورها ويعلم مستقرها ومستودعها على مراتب العلم ، والله عز وجل خبير يعلم الأشياء قبل إخبار الملائكة عنها وبعد الإخبار عنها فله جنود السماوات والأرض يخبرونه بالوقائع لتحقيق الحكمة في الخلق ، وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ : تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ) ، فسؤاله ليس طلبا للعلم فهو السميع البصير ولكن لإظهار شرف المؤمن عند اللطيف الخبير ، وبيان فضله بين ملائكته وحملة عرشه ، قال ابن حجر رحمه الله : ( قيل الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم ، وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة : } أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ { [البقرة:30] ، أي وقد وجد فيهم من يسبح ويقدس مثلكم بنص شهادتكم ).
الله جل جلاله الوِتْرُ
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنِه صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا ، مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدًا ، لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَهْوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ ) ، فقد ورد الاسم مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على الوترية وكمال الوصفية ، وقد ورد المعنى في قوله : يحب الوتر محمولا على الاسم مسندا إليه ، وورد أيضا عند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعا : ( وَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ) ، وعند أبي داود والترمذي وابن ماجة والنَسائي وصححه الألباني من حديث عَلِي بن أبي طالب رضي الله عنه قَالَ : أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ : ( يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ).
الله جل جلاله الجَمِيلُ
ورد الاسم في صحيح مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ، قَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ) ، والحديث ورد الاسم فيه مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وورد في رواية أحمد في مسند ابن مسعود رضي الله عنه : ( فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلاً وَرَأْسِي دَهِيناً وَشِرَاكُ نَعْلِي جَدِيداً وَذَكَرَ أَشْيَاءَ حَتَّى ذَكَرَ عِلاَقَةَ سَوْطِهِ ، أَفَمِنَ الْكِبْرِ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لاَ ، ذَاكَ الْجَمَالُ ، إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَازْدَرَى النَّاسَ ).
الله جل جلاله الحَيِيُّ
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث يَعْلَى بن أمية رضي الله عنه : ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ بِلاَ إِزَارٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ).
والاسم ورد مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وفي سنن أبى داود وصححه الألباني من حديث سَلْمَانَ الفارسي رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ).
الله جل جلاله السِّتيرُ
ورد الاسم في السنة مقرونا باسم الله الحيي ، وقد اشتهر اسم الستار بين الناس بدلا من الستير وهو خطأ لأنه لم يرد في القرآن أو السنة ، أما الستير فقد ورد مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في الحديث الذي دل على اسمه الحيي ، وعند النسائي وصححه الألباني : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ) ، وفي سنن البيهقي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه : ( أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلاَهُ عَنْ الاِسْتِئْذَانِ فِي الثَّلاَثِ عَوْرَاتٍ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا في الْقُرْآنِ ، فَقَالَ لَهُمُ : إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ ... الحديث ).
الله جل جلاله الوتر
والوِتْرُ في اللغة هو الفَرْدُ أَو ما لم يَتَشَفَّعْ من العَدَدِ ، و التواتر التتابع وقيل هو تتابع الأشياء وبينها فجوات وفترات ، وتواترت الإبل والقطا وكل شيء إذا جاء بعضه في إثر بعض ولم تجىء مصطفة .
وقوله تعالى : } وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ { [الفجر:3] ، قيل : الوتر آدم عليه السلام والشَّفْع أنه شُفِعَ بزوجته ، وقيل : الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة ، وقيل : الأَعداد كلها شفع ووتر كثرت أَو قلّت ، وقيل : الوتر هو الله الواحد والشفع جميع الخلق خلقوا أَزواجاً وكان القوم وتِراً فَشَفَعْتهم وكانوا شَفْعاً فَوَتَرْتهم ، وعند البخاري من حديث ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنه أن رجلا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم وَهْوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : مَا تَرَى فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ ؟ قَالَ : ( مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى ) ، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ رضى الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( إِذَا تَوَضَّأْتَ فَانْتَثِرْ وَإِذَا اسْتَجْمَرْتَ فَأَوْتِرْ ) أي اجعل الحجارة التي تستنجي بها فرداً استنج بثلاثة أَحجار أَو خمسة أَو سبعة ولا تستنج بالشفع .
والله تعالى وتر انفرد عن خلقه فجعلهم شفعا ، وقد خلق الله المخلوقات بحيث لا تعتدل ولا تستقر إلا بالزوجية ولا تهنأ على الفردية والأحدية ، يقول تعالى : } وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { [الذاريات:49] ، فالرجل لا يهنأ إلا بزوجته ولا يشعر بالسعادة إلا مع أسرته والتوافق بين محبتهم ومحبته ، فيراعى في قراره ضروريات أولاده وزوجته ، ولا يمكن أن تستمر الحياة التي قدرها الله على خلقه بغير الزوجية حتى في تكوين أدق المواد الطبيعية ، فالمادة تتكون من مجموعة من العناصر والمرَكَّبات وكل عنصر مكون من مجموعة من الجزيئات ، وكل جزيء مكون من مجموعة من الذرات ، وكل ذرة لها نظام في تركيبها تتزاوج فيه مع أخواتها ، سواء كانت الذرةُ سالبةً أو موجبةً ، فالعناصر في حقيقتها عبارة عن أخوات من الذرات متزاوجات متفاهمات متكاتفات ومتماسكات ، ومن المعلوم أنه لا يتكون جزئُ الماء إلا إذا اتحدت ذرتان من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسجين ، فالذرات متزاوجة سالبها يرتبط بموجبها ولا تهدأ ولا تستقر إلا بالتزاوج من بعضها البعض ، فهذه بناية الخلق بتقدير الحق بنيت على الزوجية والشفع ، أما ربنا عز وجل فذاته صمدية وصفاته فردية ، فهو المنفرد بالأحدية والوترية ، وقد ثبت في السنة النبوية : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ).
وقد قيل أيضا في معنى الشفع والوتر أن الشفع تنوع أوصاف العباد بين عز وذل وعجز وقدرة وضعف وقوة وعلم وجهل وموت وحياة ، والوتر انفراد صفات الله عز وجل فهو العزيز بلا ذل ، والقدير بلا عجز ، والقوي بلا ضعف ، والعليم بلا جهل ، وهو الحي الذي لا يموت ، القيوم الذي لا ينام ، ومن أساسيات التوحيد والوترية أن تفرد الله عمن سواه في ذات الله وصفاته وأفعاله.
الله جل جلاله الجميل
الجميل في اللغة من الجمال هو الحسن في الخلقة والخلق ، جمل فهو جميل ككرم فهو كريم ، وتجمل تزين ، وجمله تجميلا زينه ، وأجمل الصنيعة عند فلان يعني أحسن إليه ، والمجاملة هي المعاملة بالجميل ، والتجمل تكلف الجميل ، وقد جمل الرجل جمالا فهو جميل والمرأة جميلة ، وقال الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ :
وَإِذَا جَمِيلُ الْوَجْهِ لَمْ يَأْتِ الْجَمِيلَ فَمَا جَمَالُهُ مَا خَيْرُ أَخْلاَقِ الْفَتَى إِلاَّ تُقَاهُ وَاحْتِمَالُهُ
والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه ولا جزع فيه قال تعالى : } فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً { [المعارج:5] ، وقال : } فَصَبْرٌ جَمِيلٌ { [يوسف:18] ، وقوله : } فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ { [الحجر: 85 ] ، أي أعرض عنهم إعراضا لا جزع فيه.
والله عز وجل هو الجميل ، جماله سبحانه على أربع مراتب جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال وجمال الأسماء فأسماؤه كلها حسنى ، وصفاته كلها صفات كمال ، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ، وعدل ورحمة ، وأما جمال الذات وكيفية ما هو عليه ، فأمر لا يدركه سواه ، ولا يعلمه إلا الله ، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرف بها إلى من أكرمه من عباده ، وعند البخاري ومسلم من حديث أَبِي مُوسَى رضى الله عنه مرفوعا : ( حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) ، قال عبد الله بن عباس رضى الله عنه : ( حجب الذات بالصفات وحجب الصفات بالأفعال ، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال ، وستر بنعوت العظمة والجلال ).
ومن هذا المعنى يفهم بعض معاني جمال ذاته ، فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات فإذا شاهد شيئا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات ثم استبدل بجمال الصفات على جمال الذات ومن ههنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله وأن أحدا من خلقه لا يحصي ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه .
الله جل جلاله الحيي
الحيي في اللغة هو المتصف بالحياء ، يقال : حَيِيَ منه حياء واستحيا منه واستحى منه ، وهو حَيِيُّ ذو حياء كغني ذو غنى ، والحياء صفة خلقية رقيقة وسجية لطيفة دقيقة تمنع النفس من تجاوز أحكام العرف أو من تجاوز أحكام الشرع ؛ وأحكام العرف يقصد بها كل ما تعرفه النفوس وتستحسنه العقول من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وهي التي كانت ولم تزل مستحسنة في كل زمان ومكان ، وعند البخاري من حديث ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَح فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ).
والمقصود أن الحياء لم يزل مستحسنا في شرائع الأنبياء وأنه لم ينسخ في جملة ما نسخ من شرائعهم ، وعند البخاري من حديث أبي سفيان رضى الله عنه وهو بين يدي هرقل أنه قال لِتَرْجُمَانِهِ : ( قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ ، فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يؤثروا عَليَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ) ، وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( إِنَّ موسى كَانَ رَجُلا حَيِيًّا سِتِّيرًا لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ ) ، والله عز وجل قال : } فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا { [القصص:25] ، فالحياء صفة أخلاقية وسجية نفسية تراعي مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وهي كلها خير .
أما حياء الشرع فهو الحياء الذي يحفظ به العبد حدود الله ومحارمه ، وربما يتطلب ذلك ورعا واتقاء للشبهة مما يحيف على الحيي بعض الشيء ، وقد روى البخاري من حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ ، وفي رواية أخرى : مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهْوَ يُعَاتَبُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِى حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : ( دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ ) ، وعند النسائي وصححه الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ) ، إنَّما جَعَل الحَياء وهو أمر غَريزي شُعْبة من الإيمان وهو أمر كسبي لأنَّ المُسْتحي يَنْقَطِع بالحَياء عن المَعاصي فصار كالإيمان الذي يقطع عنها ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ ).
والله عز وجل حيي لأنه الذي تكفل بعباده وبأرزاقهم فليس لهم أحد سواه فهو الذي يقبل توبتهم ويوفق محسنهم ويسمع دعاءهم ولا يخيب رجاءهم ، وحياء الرب تعالى لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال .
وعند أبى داود وصححه الشيخ الألباني من حديث سَلْمَان الفارسي رضى الله عنه أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِىٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِى مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) ، والحياء وصف كمال لله لا يعارض الحكمة ولا يعارض بيان الحق والحجة ، كما قال تعالى : } إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ { [البقرة:26].
الله جل جلاله الستير
الستير في اللغة من الستر يقال ستر الشيء يَسْتُرُه يَسْتِرُه سَتراً أَخفاه ، والسَّتيْرَ على وزن فَعِيل من صيغ المبالغة هو الذي من شأْنه حب الستر والصَّوْن والحياء ، والسِّتْرُ جمعه سُتُورٌ وأسْتارٌ ، والسُّتْرةُ ما يُستر به كائنا ما كان ، وكذا السِّتَارةُ والجمع السَّتَائِرُ وسَتَر الشيء غطاه وتَسَتَّر أي تغطى ، وجارية مُستَّرةٌ يعني مستورة في خدرها وقوله تعالى : } وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً { [الإسراء:45] ، أي حجابا على حجاب فالأول مستور بالثاني أراد بذلك كثافة الحجاب لأنه جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا.
والستر يأتي أيضا بمعنى المنع كما ورد عن البخاري من حديث عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِي صلى الله عليه و سلم حَدَّثَتْهُ قَالَتْ : ( جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا ، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ ، فَدَخَلَ النَّبِي صلى الله عليه و سلم فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ : مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ ) ، وعند البخاري من حديث سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضى الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم قال : ( إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ ).
والله عز وجل ستير يحب الستر ويبغض القبائح ، ويأمر بستر العورات ويبغض الفضائح ، يستر العيوب على عباده وإن كانوا بها مجاهرين ، ويغفر الذنوب مهما عظمت طالما أن عبده من الموحدين ، وهو الذي لا يستر على عبد في الدنيا إلا ستره يوم القيامة ، روى البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ : ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ) ، وعند البخاري من حديث ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنه َقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ : ( إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ، وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا ، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ، أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ، وروى مسلم من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( لاَ يَسْتُرُ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ في الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
الله جل جلاله الكَبِيرُ
ورد اسم الله الكبير مقترنا باسمه المتعال في قوله تعالى : ( عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ ) [الرعد:9] ، ومقترنا بالعلي في عدة مواضع منها قوله : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ ) [لقمان:30] ، وفي هذه المواضع ورد مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد في السنة عند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ في السَّمَاءِ ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا : مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ ، قَالُوا لِلذِي قَالَ : الحَقَّ وَهْوَ العَلِىُّ الكَبِيرُ ).
الله جل جلاله المُتَعَالُ
ورد اسم الله المتعال في القرآن في موضع واحد على سبيل الإطلاق معرفا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، قال تعالى : ( عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ ) [الرعد:9] ، وفي السنة عند أحمد بسند صحيح من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ : ( وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا الجَبَّارُ أَنَا المُتَكَبِّرُ ، أَنَا المَلِكُ أَنَا المُتَعَالِ ، يُمَجِّدُ نَفْسَهُ ، قَالَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرَدِّدُهَا حَتَّى رَجَفَ بِهِ المِنْبَرُ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَخِرُّ بِهِ )
الله جل جلاله الوَاحِد
ورد الاسم معرفا بالألف واللام مطلقا ومنونا ، وكذلك ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في قوله تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّار ) [إبراهيم:48] ، وقوله سبحانه : ( قُل اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّار ُ{ [الرعد:16] ، ودائما ما يقترن اسم الله الواحد باسمه القهار لأن علو القهر من لوازم الوحدانية ، كما قال سبحانه وتعالى : ( لوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّار ُ{ [الزمر:4] ، والاسم في هذه المواضع وغيرها مراد به العلمية ودال على كمال الوصفية ، وعند النسائي وصححه الألباني من حديث حَنْظَلَةُ بْن عَلِيٍّ أَنَّ مِحْجَنَ بْنَ الأَدْرَعِ رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ فَقَال َ: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثاً (3) ، وروى البخاري من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ : أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ (4)، وعند مسلم وأحمد من حديث عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِذَا بُدِّلَتِ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ أَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : عَلَى الصِّرَاطِ .
الله جل جلاله القَهَّارُ
سمى الله نفسه القهار على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في قول الله تعالى : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) [يوسف:39] وقوله : ( قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) [الرعد:16] ، وفي السنة تقدم في الاسم السابق حديث عَائِشَة رضي الله عنها عند مسلم ، وورد أيضا في الجامع الصغير وصححه الشيخ الألباني من حديثها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تضور من الليل قال : ( لا إله إلا الله الواحد القهار ، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ).
الله جل جلاله الكَبِيرُ
الكبير في اللغة من صيغ المبالغة فعله كَبُرَ كِبَراً وكُبْراً فهو كبير والكبر نقيض الصغر كبر بالضم يكبر أي عظم ، والكبير والصغير من الأسماء المتضايقة التي تقال عند اعتبار بعضها ببعض فالشيء قد يكون صغيرا في جنب شيء وكبيرا في جنب غيره ، ويستعملان في الكمية المتصلة كالكثير والقليل والمنفصلة كالعدد ، ويكون الكبر في اتساع الذات وعظمة الصافات نحو قوله تعالى : } فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ { [الأنبياء:58] ، وقوله سبحانه : } فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً { [الفرقان:52] ، وأيضا في التعالي بالمنزلة والرفعة كقوله : } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا { [الأنعام:123]
والكبير سبحانه هو العظيم في كل شيء عظمة مطلقة ، وهو الذي كبر وعلا في ذاته ، قال تعالى : } وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ { [البقرة:255] ، وروي عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه أنه قال : ( ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم ) ، وهو الكبير في أوصافه فلا سمي له ولا مثيل ، ولا شبيه ولا نظير قال تعالى : } هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً { [مريم:65] ، وهو الكبير في أفعاله فعظمة الخلق تشهد بكماله وجلاله ، قال تعالى : } لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ { [غافر:57] ، وهو سبحانه المتصف بالكبرياء ومن نازعه في ذلك قسمه وعذبه وفي صحيح مسلم من حديث َأَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ ) ، فهو سبحانه المنفرد بذاته وصفاته وأفعاله عن كل من سواه ، فله علو الذات وعلو القهر وعلو الشأن .
المتعال
المتعالي اسم فاعل من تعالى ، والتَّعالي هو الارْتِفاعُ ، قال الأَزهري : ( تقول العرب في النداء للرجل تَعالَ بفتح اللام ، وللاثنين تَعالَيا ، وللرجال تَعالَوْا ، وللمرأَة تَعالَي ، وللنساء تَعَالَيْنَ ، ولا يُبالُونَ أَين يكون المدعوّ في مكان أَعْلى من مكان الداعي أَو مكان دونه ) ، والمتعالي فعله تعالى يتعالى فهو متعال ، وهو أبلغ من الفعل علا ، لأن الألفاظ لما كانت أدلة المعاني ثم زيد فيها شيء أوجبت زيادة المعنى فزيادة المبنى دليل على زيادة المعنى
والمُتعَالي سبحانه هو القاهرُ لخلقِهِ بقدرتِهِ التَّامَّةِ ، وأغلب المفسرين جعلوا الاسم دالا على علو القهر ، وهو أحد معاني العلو ، فالمتعالي هو المستعلي على كل شيء بقدرته ، قال ابن كثير : ( المتعال على كل شيء قد أحاط بكل شيء علما وقهر كل شيء فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعا وكرها ) ، وقال في موضع آخر : ( وهو الكبير المتعال فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته لا إله إلا هو ولا رب سواه لأنه العظيم الذي لا أعظم منه )
فالمتعالي سبحانه هو الذي ليس فوقه شيء في قهره وقوته فلا غالب له ولا منازع بل كل شيء تحت قهره وسلطانه ، قال تعالى : } وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ { [الأنعام:18] ، وقد جمع الله في هذه الآية بين علو الذات وعلو القهر ، وكذلك قوله تعالى: } وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً { [الأنعام:61] ، فاجتماع علو القهر مع علو الفوقية يعني أنه الملك من فوق عرشه الذي علا بذاته فوق كل شيء والذي قهر كل شيء وخضع لجلاله كل شيء وذل لعظمته وكبريائه كل شيء.
الواحد
الواحد في اللغة اسم فاعل للموصوف بالواحدية أو الوحدانية ، فعله وحد يوحد وحادة وتوحيدا ، ووحده توحيدا جعله واحدا ، والواحدُ أَول عدد الحساب وهو يدل على الإثبات ، فلو قيل في الدار واحد ، لكان فيه إثبات واحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومفترقين
والواحد سبحانه هو القائم بنفسه المنفرد بوصفه ، الذي لا يفتقر إلى غيره أزَلا وأبَدا ، وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته ، فهو سبحانه كان ولا شيء معه ولا شيء قبله ، مازال بأسمائه وصفاته واحد أولا قبل خلقه ، فوجود المخلوقات لم يزده كمالا كان مفقودا أو يزيل نقصا كان موجودا ، فالوحدانية قائمة على الغنى بالنفس وكمال الوصف ، قال ابن الأَثير : ( الواحد في أَسماء الله تعالى هو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر )
روى البخاري من حديث عمران رضى الله عنه أنه قال : ( إنِّي عندَ النبيِّ صلى الله عليه و سلم إذ جاءهُ قومٌ من بني تميم ، فقال : اقبَلوا البُشرى يا بنِي تميم ، قالوا : بشَّرْتنا فأعطِنا ، فدخلَ ناسٌ من أهل اليمن فقال : اقبلوا البُشرَى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم ، قالوا : قبلنا جئناك لنتفقه في الدِّين ، ولنسألك عن أولِ هذا الأمر ما كان ؟ قال : كان اللهَ ولم يكن شيء قبلهُ وكان عرشه على الماء ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ وكتب في الذكر كل شيء )
وقال تعالى : } مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً { [الكهف:51] ، فهو وحده الذي خلق الخلق بلا معين ولا ظهير ولا وزير ولا مشير ، ولذلك فإنه وحده المنفرد بالملك وليس لأحد في ملكه شرك كما قال تعالى : } قُلِ ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ { [سبأ:22] ، فقيام الخلق وبقاء السماوات والأرض قائم على وحدانية الإله ، وانفراده بأوصاف الجلال وكمال الأفعال كما قال تعالى : } إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً { [فاطر:41] ، وقال أيضا : } وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَحِيمٌ { [الحج:65] .
القهار
القهار صيغة مبالغة من اسم فاعل القاهر ، والفرق بين القاهر والقهار أن القاهر هو الذي له علو القهر الكلي المطلق باعتبار جميع المخلوقات على اختلاف تنوعهم ، فهو قاهر فوق عباده ، له علو القهر مقترنا بعلو الشأن والفوقية ، فلا يقوى ملك من الملوك على أن ينازعه في علوه مهما بلغ في سلطانه وظلمه ، وإلا قهره الله باسمه القهار ، ومعلوم أن المقهور يحتمي من ملك بملك ، ويخرج بخوفه من سلطان أحدهما ليتقوى بالآخر ، لكن الملوك جميعا إذا كان فوقهم ملك قاهر قادر فإلى من يخرجون وإلى جوار من يلجئون ، قال تعالى : } قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ { [المؤمنون:88] ، وعند البخاري من حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضى الله عنه أن النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم قال : ( اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ ) ، فلا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه ، فالقاهر هو الذي له علو القهر الكلي المطلق .
أما القهار فهو الذي له علو القهر باعتبار الكثرة والتعيين في الجزء ، أو باعتبار نوعية المقهور ، فالله عز وجل أهلك قوم نوح وقهرهم وقهر قوم هود ، وقهر فرعون وهامان والنمرود ، قال تعالى : } وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تَتَمَارَى هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى { [النجم:56:50] وقهر قوم صالح وقوم لوط ، وقهر أبا جهل والمشركين وقهر الفرس والصليبيين.
والله قهار لكل متكبر جبار ، والأرض فيها المتكبرون وما أكثرهم وفيها المتجبرون المجرمون وما أظلمهم ، والمستضعفون المظلومون كثيرون وعاجزون يفتقرون إلى معين قهار وملك قادر جبار ، فالواحد القهار هو ملجأهم وهو بالمرصاد كما قال : } أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ { [الفجر:6/13] ، فالقهاركثير القهر ، وقهره عظيم ، يقهر من نازعه على توحيد ألوهيته وعبادته وربوبيته وحاكميته وأسمائه وصفاته .
الله جل جلاله الحَقُّ
اسم الله الحق ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، كما جاء في قوله تعالى : ( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيم ) [المؤمنون:116] ، وقوله : ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) [الأنعام:62] ، وقوله : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ٌ{ [الحج:6] ، وفي الصحيحين من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ مِنْ جَوْفِ الليْلِ : ( أَنْتَ الحَقُّ ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ .. الحديث ).
الله جل جلاله المُبِينُ
اسم الله المبين ورد في القرآن مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، كما في قوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) [النور:25] ، ولم يذكر الاسم إلا في هذه الآية فقط ، ولم يرد في حديث صحيح ، لكن الآية دليل صريح على أن الله سمى نفس به ، وقد ورد هذا الاسم في أعقاب اتهام المنافقين لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك فأظهر الله براءتها وأبان للمسلمين طهارتها ومكانتها .
الله جل جلاله القَوِيُِّ
سمى الله نفسه القوي على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد معرفا بالألف واللام مقترنا باسم الله العزيز في موضعين ، قال تعالى : ( اللهُ لطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) [الشورى:19] وقال : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) [هود:66].
وورد منونا في خمسة مواضع منها قوله تعالى : ( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [المجادلة:21] ، وقوله : ( مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لقَوِيٌّ عَزِيز ٌ{ [الحج:74]، وفي مسند الإمام أحمد وحسنه الألباني من حديث عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالتْ عن يوم الخندق : ( وَبَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَل الرِّيحَ عَلى الْمُشْرِكِينَ ، فَكَفَى اللهُ عَزَّ وَجَل الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ) .
الله جل جلاله المَتِينُ
سمى الله نفسه المتين على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها في آية واحدة من القرآن ، فقد ورد معرفا بالألف واللام في قوله : ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [الذاريات:58] ، وفي سنن أبى داود وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه أنه قَال : ( أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ )
الله جل جلاله الحَيُّ
اسم الله الحي تحققت فيه شروط الإحصاء ، فقد ورد مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، قال تعالى : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ً{ [الفرقان:58] ، وقال : ( هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [غافر:65] ، ولم يقترن الحي إلا باسمه القيوم لأن جميع الأسماء الحسنى تدل عليهما باللزوم ، قال تعالى : ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) [البقرة:255] ، وسوف يأتي في الجزء الخاص بدلالة الأسماء على الصفات بيان ذلك وشرح العلة في كونهما الاسم الأعظم .
وعند مسلم من حديث أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سأله : ( يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ، أَتَدْرِى أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ قُلْتُ : اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ ، قَالَ : فَضَرَبَ فِي صدري ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ ).
وفي سنن أبي داود وحسنه الألباني منْ حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) ، وَفَاتِحَةُ آلِ عِمْرَانَ : ( ألم اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ ) .
الله جل جلاله القَيُّومُ
ورد الاسم مقترنا باسم الله الحي كما في الآيات السابقة وأيضا في قوله تعالى : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْما ً{ [طه:111] ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَنَسِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ).
كذلك لأنها وردت مضافة مقيدة ، وورد الإطلاق في القيام فقط لكن في قراءة شاذة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الله جل جلاله الحَقُّ
الحق في اللغة اسم فاعل ، فعله حَقَّ يَحِقُّ حقا يقال : حققت الشيء أحقه حقا إذا تيقنت كونه ووجوده ومطابقته للحقيقة ، والحق بمعنى المطابقة والموافقة والثبات وعدم الزوال ، وكذلك العدل خلاف الباطل والظلم ، والحق يقال للاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه في الحقيقة ، كقولك : اعتقد أن البعث والثواب والعقاب والجنة والنار حق ، والحق له استعمالات كثيرة في القرآن ، منها الإسلام والعدل والحكمة والصدق والوحي والقرآن والحقيقة ، ومنها أيضا الحساب والجزاء كقوله : } يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ { [النور:25]
والحق اسم لله سبحانه هو المتصف بالوجود الدائم والقيومية والبقاء فلا يلحقه زوال أو فناء ، وكل أوصاف الحق كاملة جامعة للكمال والجمال والعظمة والجلال قال تعالى : } ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ { [الحج:62] ، وكقوله : } ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { [الحج:6] ، والحق سبحانه هو الذي يحق الحق بكلماته ويقول الحق وإذا وعد فوعده الحق ، ودينه حق ، وكتابه حق ، وما أخبر عنه حق ، وما أمر به حق كما قال تعالى : } وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ { [يونس:82] ، وقال سبحانه : } وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ { [الأنعام:73] ، وقال : } يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ { [النور:25]
المبين
المبين اسم فاعل من الفعل بان أو أبان ، وأصل البَينُ التميز والظهور والبُعْد والانفصال ، يقال : بانَ الحقُّ يَبينُ بَياناً فهو بائنٌ ، أو أَبانَ يُبينُ إِبانة فهو مُبينٌ ، فمن الأول تَبَايَنَ الرجُلانِ أي بانَ كلُّ واحد منهما عن صاحبه وكذلك في الشركة إِذا انفصلا وبانَت المرأَةُ عن زوجها وهي بائنٌ يعني انفصلت عنه بتَطْليقةٌ بائنة والبائن أيضا بمعنى الظاهر المبين الواضح كما في قوله تعالى : } فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ { [الأعراف:107] ، وقوله : } فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ { [الدخان:10].
ومن الثاني أبان القول بيانا يعني أظهره بفصاحة ، والبَيانُ الفصاحة واللَّسَن وكلامٌ بَيِّن فَصيح ، والبَيان الإِفصاح مع ذكاء ، والبَيِّن من الرجال السَّمْح اللسان الفصيح الظريف العالي الكلام القليل الرتَج ، وفلانٌ أَبْيَن من فلان أَي أَفصح منه وأَوضح كلاماً ، وعند البخاري من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضى الله عنه أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلاَنِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا ، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : ( إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا ، أَوْ إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ ) ، فالبَيان إِظهار المقصود بأَبلغ لفظٍ وأَصلُه الكَشْفُ والظهورُ
والمبين هو المنفرد بوصفه المباين لخلقة الظاهر فوق كل شيء ، له مطلق العلو والفوقية وليس كما قالت الجهمية أنه بذاته في كل مكان ، بل هو سبحانه بائن من خلقه ، ليس في خلقه شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، وهو المبين الغني عن العالمين ، وقد ذكر ابن تيمية أن الأئمة من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر أئمة الدين اتفقوا على أن قوله تعالى : } وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { [الحديد:4] ، ليس معناه أنه مختلط بالمخلوقات وحال فيها ، ولا أنه بذاته في كل مكان ، بل هو سبحانه وتعالى على عرشه ومع كل شيء بعلمه وقدرته فالله سبحانه مع العبد أينما كان ، يسمع كلامه ويرى أفعاله ويعلم سره ونجواه رقيب على خلقه مهيمن عليهم ، وقال ابن منده : ( فهو سبحانه وتعالى موصوف غير مجهول وموجود غير مدرك ، ومرئي غير محاط به ، لقربه كأنك تراه ، وهو يسمع ويرى وهو بالمنظر الأعلى ، وعلى العرش استوى ، فالقلوب تعرفه ، والعقول لا تكيفه وهو بكل شيء محيط )
والمبين سبحانه هو الذي أبان لكل مخلوق علة وجوده وغايته ، وأبان لهم طلاقة قدرته مع بالغ حكمته ، وأبان لهم الأدلة القاطعة على وحدانيته ، وأبان لهم دينهم بأحكام شريعته ، ولا يعذب أحدا من خلقه إلا بعد بيان حجته ، قال تعالى : } وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى { [طه:134] ، وقد خاطب المبين عباده بكل أنواع البيان ، وأقام حجته بكل أنواع البرهان ، قال تعالى : } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ { [الحج:5] ، وقال سبحانه : } وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم { [إبراهيم:4] ، قال البيهقي : ( المبين له معان منها أنه بين لذوي العقول ، ومنها أن الفضل يقع به ، ومنها أن التحقيق والتمييز إليه ومنها أن الهداية به ).
القوي
القوي في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالقوة ، وقد قَوِيَ وتَقَوَّى فهو قَويّ يقال : وقَوَّى الله ضعفَك أَي أَبدَلَك مكان الضعف قُوَّة ، فالقُوَّةُ نقيض الضعف والوهن والعجز ، وهي الاستعداد الذاتي والقدرة على الفعل وعدم العجز عنه عن القيام به ، قال تعالى لموسى عليه السلام عن التوراة والأَلواح : } فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا { [الأعراف:145] ، أَي خذها بقُوَّة في دينك وحُجَّتك ، وقال ليحي عليه السلام : } يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ { [مريم:12] ، أَي بِجِدّ وعَوْن من الله تعالى .
والقوي في أسماء الله معناه أنه الموصوف بالقوة ، وصاحب القدرة المطلقة ، لا يغلبه غالب ولا يرد قضاءه راد ، ولا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع ، وهو القوي في بطشه القادر على إتمام فعله ، له مطلق المشيئة والأمر في مملكته ، والقوي سبحانه قوي في ذاته لا يعتريه ضعف أو قصور ، قيوم لا يتأثر بوهن أو فتور ، ينصر من نصره كما قال : } وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ { [الحج:40] ، وكتب الغلبة لنفسه ورسله فقال سبحانه : } كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ { [المجادلة:21] ، فالقوي اسمه والقوة المطلقة صفته ، قال تعالى : } مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ { [الحج:74].
المتين
المتين في اللغة هو الشيء الثابت في قوته ، الشديد في عزمه وتماسكه ، والواسع في كماله وعظمته ، متن يمتن متانة أي قوي مع صلابة واشتداد ، ويلحق بهذا المتون الثبات والامتداد ، فيكون المتين بمعنى الواسع ، قال ابن منظور : ( المَتْنُ من كل شيء ما صَلُبَ ظَهْرُه والجمع مُتُون )
والله متين في ذاته قوي شديد وواسع كبير محيط ، فلا تنقطع قوته ولا يلحقه كلل في قدرته ، فالمتين هو القوي الشديد الذي لا يلحقه في أَفعاله مشقةٌ ولا كُلْفة ولا تعَبٌ (10) ، قال تعالى : } إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ { [الذريات:58] ، فالله عز وجل من حيث إنه بالغ القدرة تامُّها قَوِيّ ، ومن حيث إنه شديد القُوَّة متِينٌ
وقال تعالى : } وَأُمْلِي لهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ { [القلم:45] ، الكيد على إطلاقه هو التدبير في الخفاء بقصد الإساءة أو الابتلاء أو المعاقبة والجزاء ، وقد يكون عيبا مذموما إذا كان بالسوء عند الابتداء ، وقد يكون محمودا مرغوبا إذا كان مقابلا لكيد الكافرين والسفهاء ، فإذا كان الكيد عند الإطلاق كمالا في موضع ونقصا في آخر فلا يصح إطلاقه في حق الله دون تخصيص ، كقول القائل : الكيد صفة الله ، فهذا باطل لأن الإطلاق فيه احتمال اتصافه بالنقص أو الكمال ، لكن يصح قول القائل : كيد الله للابتلاء والمعاقبة والجزاء ، فهذا كيد مقيد لا يحتمل إلا الكمال فجاز أن يتصف به رب العزة والجلال كما أثبت ذلك لنفسه فقال : } إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً { [الطارق:16] ، وقال : } وَأُمْلِي لهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ { [الأعراف:183] (12) ، فوصف الله كيده للكافرين بأنه كيد شديد قوي متين ، لا يمكن لأحد منهم رده أو صده ، والله غالب على أمره كتب الغلبة لنفسه ورسله.
القيوم
القيوم في اللغة صيغة من صيغ المبالغة ، فعله قام يَقُومُ قَوْماً وقِياماً ، ويأتي الفعل على معنيين الأول القيام بالذات والبقاء على الوصف ، والثاني إقامة الغير والإبقاء عليه لأن غيره مفتقر إليه ، فالأول من صفة الذات والثاني من صفة الفعل ، وعلى هذين المعنيين دارت عبارات اللغويين ، فالقيوم هو القائم بنفسه مطلقاً لا بغيره ، الباقي أزلا وأبدا ، أو القائم بتدبير أُمور الخلق وتدبير العالم بجميع أَحواله ، فهو القائم بأَمر خلقه في إِنشائهم وتولي أرزاقهم وتحديد آجالهم وأَعمالهم وهو العليم بمُسْتَقَرِّهم ومستودعهم وهو الذي يقوم به كل موجود حتى لا يْتَصوَّر وجود شيء ولا دوام وجوده إِلا بقيوميته وإقامته له.
فالقيوم هو القائم بنفسه الذي بلغ مطلق الكمال في وصفه ، والباقي بكماله ووصفه على الدوام دون تغيير أو تأثير ، فقد يكون الحي سميعا لكن يتأثر سمعه مع مرور الوقت ، فيفتقر إلى وسيلة إضافية للسماع ، يضع سماعة أو آلة يستعين بها لإكمال سمعه فيلزم لاتصافه بكمال السمع أن يكون قيوما في سمعه له البقاء والكمال فيه على الدوام ، وقد يكون الحي بصيرا لكن بصره يتأثر مع مرور الوقت فيفتقر إلى وسيلة إضافية للإبصار ، فيضع زجاجة أو نظارة يستعين بها ، فيلزم لاتصافه بكمال البصر والإبصار أن يكون قيوما في بصره له البقاء والكمال فيه على الدوام ، والحي قد يكون متصفا بالصفات لكنه يتأثر بالغفلة والسنات فتتأثر وتضمحل وربما ينام أو يموت فتزول وتنعدم ، فلو كان قائما دائما لكملت حياته وبقيت صفاته ، ولذلك قال تعالى : } اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ { [البقرة:255] ، فأثبت الحياة والقيومية اللازمة لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله ، وهذا المعنى كله في دلالة القيوم على صفة الذات.
أما دلالته على صفة الفعل فالقيومية هنا مردها إلى معنى الربوبية ، فالقيم في اللغة هو السيد الذي يسوس الأمور ويدبرها ، فقيم البلدة سيدها وأمينها ومدبرها ، ومنه قوله تعالى : } أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ { [الرعد:33] ، وعند البخاري مرفوعا : ( أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ) ، وقال تعالى : } إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ { [فاطر:41].
الله جل جلاله الحَيُّ
اسم الله الحي تحققت فيه شروط الإحصاء ، فقد ورد مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، قال تعالى : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ً{ [الفرقان:58] ، وقال : ( هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [غافر:65] ، ولم يقترن الحي إلا باسمه القيوم لأن جميع الأسماء الحسنى تدل عليهما باللزوم ، قال تعالى : ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) [البقرة:255] ، وسوف يأتي في الجزء الخاص بدلالة الأسماء على الصفات بيان ذلك وشرح العلة في كونهما الاسم الأعظم .
وعند مسلم من حديث أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سأله : ( يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ، أَتَدْرِى أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ قُلْتُ : اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ ، قَالَ : فَضَرَبَ فِي صدري ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ )
وفي سنن أبي داود وحسنه الألباني منْ حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) ، وَفَاتِحَةُ آلِ عِمْرَانَ : ( ألم اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ ) .
الله جل جلاله القَيُّومُ
ورد الاسم مقترنا باسم الله الحي كما في الآيات السابقة وأيضا في قوله تعالى : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْما ً{ [طه:111] ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَنَسِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى )
وقد اعتبر بعض العلماء القائم والقيم والقيام من الأسماء الحسنى ، وليست كذلك لأنها وردت مضافة مقيدة ، وورد الإطلاق في القيام فقط لكن في قراءة شاذة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الله جل جلاله العَلِيُّ
ورد الاسم مقرونا بالعظيم في موضعين من القرآن فقال تعالى : ( وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ) [البقرة:255] ، وقال أيضا : ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ) [الشورى:4] ، واقترن باسمه الكبير في أربعة مواضع من كتاب الله منها قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِير ُ{ [الحج:62] ، وعن أبي داود وابن ماجه وصححه الألباني من حديث عبادة بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ حِينَ يَسْتَيْقِظُ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ العَلِىِّ العَظِيمِ ، ثُمَّ دَعَا رَبِّ اغْفِرْ لي ، غُفِرَ لَهُ ).
وفي سنن ابن ماجه أيضا وصححه الألباني من حديث عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ : ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَلِىُّ العَظِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ).
الله جل جلاله العَظِيمُ
اسم الله العظيم ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد منفردا ومقترنا باسم الله العلي ، قال تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ ) [الحاقة:33] ، وورد في ثلاثة مواضع الأمر بالتسبيح به خاصة وبنص واحد في قوله تعالى : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) ، موضعان في سورة الواقعة والثالث في سورة الحاقة (8)، أما اقترانه باسمه العلي فقد ورد في موضعين كما تقدم
وقد ورد الاسم في السنة في كثير من المواضع منها ما ورد عند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ )
وفي سنن أبي داود وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ قَالَ : ( أَعُوذُ بِاللَّهِ العَظِيمِ ، وَبِوَجْهِهِ الكَرِيمِ ، وَسُلطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )
الحي
الحي في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالحياة ، فعله حَيَّ يَحَيُّ حياة ، قال تعالى : } لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ { [الأنفال:42] ، والحَيُّ من كل شيء نقيضُ الميت ، والجمع أَحْياء ، والحَيُّ كل متكلم ناطق ، والحيُّ من النبات ما كان أخضرا طَرِيّاً يَهْتَزّ ، والحَيُّ أيضا هو الواحد من أَحْياءِ العَربِ يقع على بَنِي أَبٍ كَثُروا أَم قَلُّوا وعلى شَعْبٍ يجمَعُ القبائلَ ، والحَيُّ أيضا البطن من بطون العرب .
والحي سبحانه هو الدائم في وجوده الباقي حيا بذاته على الدوام أزلا وأبدا ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، وهذا الوصف ليس لسواه أبدا فأي طاغوت عبد من دون الله إن كان حيا فحياته تغالبها الغفلة والسنات ، وإن قاومها وأراد البقاء عددا من الساعات فإن النوم يراوده ويوافيه ، والموت عاجلا أم آجلا سيأتيه ، فلا ينفرد بكمال الحياة ودوامها باللزوم إلا الحي القيوم .
قال ابن جرير الطبري : ( وأما قوله الحي فإنه يعني الذي له الحياة الدائمة والبقاء الذي لا أول له يحد ولا آخر له يمد ، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا فلحياته أول محدود وآخر مأمود ينقطع بانقطاع أمدها وينقضي بانقضاء غايتها ).
والحي سبحانه هو المتصف بالحياة كوصف ذات لله لا يتعلق بمشيئته ، وإن تعلق بها فالإحياء وصف فعله ، ولما كان كل ما سوى الله حياته قائمة على إحياء الله وإحياء الله يدل بالضرورة على وصف الحياة ؛ على اعتبار أن الحياة الذاتية لله هي الحياة الحقيقية وكل من سواه يفنى أو قابل للفناء بمشيئة الله ، فإن اسم الله الحي دال على الوصفين معا ، الحياة كوصف ذات والإحياء كوصف فعل ، ومن هنا كانت دعوة الموحدين إلى الاعتماد على رب العالمين لأنه الحي الذي لا يموت كما قال سبحانه : } وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ { [الفرقان:58] ، والله عز وجل من أسمائه المقيدة المحي فلم يرد إلا مضافا كما في قوله : } فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { [الروم:50] ، فالمحي اسم مقيد يدل على صفة الحياة باللزوم والإحياء بالتضمن ، والله عز وجل هو الحي الذي يحي ويميت ، إن تعلق وصف الحياة بالمشيئة كان الإحياء وصف فعله ، وإن لم يتعلق بها كانت الحياة وصف ذاته.
القيوم
القيوم في اللغة صيغة من صيغ المبالغة ، فعله قام يَقُومُ قَوْماً وقِياماً ، ويأتي الفعل على معنيين الأول القيام بالذات والبقاء على الوصف ، والثاني إقامة الغير والإبقاء عليه لأن غيره مفتقر إليه ، فالأول من صفة الذات والثاني من صفة الفعل ، وعلى هذين المعنيين دارت عبارات اللغويين ، فالقيوم هو القائم بنفسه مطلقاً لا بغيره ، الباقي أزلا وأبدا ، أو القائم بتدبير أُمور الخلق وتدبير العالم بجميع أَحواله ، فهو القائم بأَمر خلقه في إِنشائهم وتولي أرزاقهم وتحديد آجالهم وأَعمالهم وهو العليم بمُسْتَقَرِّهم ومستودعهم وهو الذي يقوم به كل موجود حتى لا يْتَصوَّر وجود شيء ولا دوام وجوده إِلا بقيوميته وإقامته له .
فالقيوم هو القائم بنفسه الذي بلغ مطلق الكمال في وصفه ، والباقي بكماله ووصفه على الدوام دون تغيير أو تأثير ، فقد يكون الحي سميعا لكن يتأثر سمعه مع مرور الوقت ، فيفتقر إلى وسيلة إضافية للسماع ، يضع سماعة أو آلة يستعين بها لإكمال سمعه فيلزم لاتصافه بكمال السمع أن يكون قيوما في سمعه له البقاء والكمال فيه على الدوام ، وقد يكون الحي بصيرا لكن بصره يتأثر مع مرور الوقت فيفتقر إلى وسيلة إضافية للإبصار ، فيضع زجاجة أو نظارة يستعين بها ، فيلزم لاتصافه بكمال البصر والإبصار أن يكون قيوما في بصره له البقاء والكمال فيه على الدوام ، والحي قد يكون متصفا بالصفات لكنه يتأثر بالغفلة والسنات فتتأثر وتضمحل وربما ينام أو يموت فتزول وتنعدم ، فلو كان قائما دائما لكملت حياته وبقيت صفاته ، ولذلك قال تعالى : } اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ { [البقرة:255] ، فأثبت الحياة والقيومية اللازمة لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله ، وهذا المعنى كله في دلالة القيوم على صفة الذات.
أما دلالته على صفة الفعل فالقيومية هنا مردها إلى معنى الربوبية ، فالقيم في اللغة هو السيد الذي يسوس الأمور ويدبرها ، فقيم البلدة سيدها وأمينها ومدبرها ، ومنه قوله تعالى : } أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ { [الرعد:33] ، وعند البخاري مرفوعا : ( أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ) (5) ، وقال تعالى : } إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ { [فاطر:41].
العلي
العلي في اللغة فَعِيل بمعنى فاعِل ، صفة مشبهة للموصوف بالعلو ، فعله علا يعلو علوا ، والعلو ارتفاع المكان أو ارتفاع المكانة ، فمن علو المكان ما ورد في صحيح الإمام مسلم من حديث َزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو رضى الله عنه أنه قال : ( لَمَّا نَزَلَتْ : } وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ { [الشعراء:214] ، انْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم إِلَى رَضْمَةٍ مِنْ جَبَلٍ فَعَلاَ أَعْلاَهَا حَجَرًا ثُمَّ نَادَى : يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافَاهْ إِنِّي نَذِيرٌ ) (7)، وعند البخاري من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( فَعَلاَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ فَقَالَ وَهْوَ مَكَانَهُ : يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ هَذَا ) .
أما العلو بمعنى علو الرفعة والمجد أو الشرف والمكانة فكقوله تعالى : } فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ { [محمد:35] ، وعَلا في الأرض واسْتَعْلَى الرجل علا وتكبر ، والعَلْيَاءُ كل مكان مشرف ، والعَلاَء والعُلاَ الرفعة والشرف .
والعلي في أسماء الله هو الذي على بذاته فوق جميع خلقه ، فاسم الله العلي دل على علو الذات والفوقية ، وكثير من الذين شرحوا الأسماء حاولوا بكل سبيل تفسير العلو الذي دل عليه اسمه العلي بعلو المكانة والمنزلة فقط ؛ إما هربا من إثبات علو الذات والفوقية أو نفيا صريحا له
والذي عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأجلاء المتبعين أن الله عز وجل عال على عرشه بذاته ، وبكيفية حقيقية معلومة لله مجهولة لنا ، لا ينازع أحد منهم في ذلك ، ولا يمنع أن يسأل عن ربه أين هو ؟
وأدلة الكتاب والسنة تشهد بلا لبس أو غموض على ذلك ، ودائما ما يقترن اسم الله العلي باسمه العظيم وأيضا عندما يذكر العرش والكرسي ، ففي آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله بعد أن قال تعالى : } وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا { ، قال : } وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيم { [البقرة:255] ، ولما ذكر علوه فقال : } فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ { ، ذكر بعده العرش بكرمه وسعته فقال : } لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيم { [المؤمنون:116] ، ولما ذكر إعراض الخلق عن عبادته أعلم نبيه صلى الله عليه و سلم في أعقاب ذلك أنه الملك الذي لا يزول عن عرشه بإعراض الرعية في مملكته كشأن الملوك من خلقه ، لأنه المستغني بذاته ، الملك في استوائه ، لا يفتقر إلى أحد في قيام ملكه أو استقراره ، فقال لنبيه صلى الله عليه و سلم : } فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُل حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ { [التوبة:129] ، وقال تعالى : } قُل لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلا { [الإسراء:42] ، فلو كانت هذه آلهة على الحقيقة لنازعوا الحق في عليائه حتى يتحقق مراد الأقوى منهم ويعلو كإله واحد ، وهذا معلوم بدليل التمانع (11) ، أو لو أنه اتخذهم آلهة واصطفاهم لطلبوا قربه والعلو عنده لعلمهم أنه العلي على خلقه .
وما أجمل الهدهد في توحيده لأسماء الله وصفاته وإثباته لعلو الذات والفوقية وإفراد الله عن استواء المخلوق بنفي المثلية ، عقيدة الهدهد الموحد تنزيه بلا تمثيل وإثبات بلا تعطيل قال : } إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيم { [النمل:23/26] ، وقال تعالى أيضا في وصف علوه : } رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ { [غافر:15] ، ووصف الله عرشه أيضا بالعلو والمجد في قوله تعالى على قراءة الخفض : } ذُو العَرْشِ المَجِيدِ { [البروج:15] .
فهذه الآيات واضحة في إثبات علو الذات والفوقية وغيرها كثير ، لكن كثيرا من المفسرين لاسم الله العلي جعلوه دالا على معنيين فقط من معاني العلو : وهما علو الشأن وعلو القهر ، واستبعدوا المعنى الثالث وعطلوه وهو علو الذات والفوقية .
والثابت الصحيح أن معاني العلو عند السلف الصالح ثلاثة معان دلت عليها أسماء الله المشتقة من صفة العلو ، فاسم الله العلي دل على علو الذات ، واسمه الأعلى دل على علو الشأن ، واسمه المتعال دل على علو القهر ؛ والمتكلمون أصحاب الطريقة العقلية والأقيسة المنطقية في وصف الذات الإلهية ينفون عن الله علو الذات والفوقية لأنه عندهم يدل على إثبات المكان لله ، وما كان في مكان فهو محصور فيه ولذلك لا يجوز عندهم بحال من الأحوال أن يسأل عن الله بأين ؟ وهذا مخالف لصريح السنة فقد ثبت في حديث الجارية الذي رواه مسلم من حديث مُعَاوِيَة بْنِ الحَكَمِ رضى الله عنه قَالَ : ( كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالجَوَّانِيَّةِ ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ ، قُلتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ أُعْتِقُهَا ؟ قَالَ : ائْتِنِي بِهَا ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا ، فَقَالَ لَهَا : أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ : فِي السَّمَاء ، قَالَ : مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ).
وهذا الحديث مع وضوحه كالشمس في أن الرسول صلى الله عليه و سلم سأل عن الله بأين سؤالا لا لبس فيه ولا غموض إلا أن الكثيرين من المتكلمين تأبى أنفسهم إثباته ، لأن أين هنا يتصورون منها المكان الذي في عالم الشهادة ، والذي يخضع للأقيسة التمثيلية والشمولية ، أما المكان ذو الكيفية الغيبية الذي لا يعلم خصائصه إلا الله فهذا لا اعتبار له عندهم ، ولذلك فإن عقيدة السلف تفرق بين نوعين من المكان
الأول : هو ما كان محصورا بالمحاور الفراغية المعروفة في محيط المخلوقات المشهودة والذي يخضع لأحكامنا العقلية ولأقيستنا المنطقية ، فمكان الشيء يحدد في المقاييس الحديثة باعتبار ثلاثة محاور رئيسية متعامدة ، اثنان يمثلان المستوى الأفقي الموازي لسطح الأرض والثالث يمثل الارتفاع عن ذلك المستوى ، وأجسام الدنيا يحدد مكانها بمدى الارتفاع في المحور الرأسي عن مستوى المحورين الأفقيين ، ولاشك أن هذه المقاييس المكانية لا تصلح بحال ما في قياس ما هو خارج عن محيط العالم ، فضلا عن قياس الأشياء الدقيقة كالإلكترون فقد ثبت أن محاوره أكثر من ثلاثة بكثير .
والثاني : يراد به المكان الغيبي الذي يخرج عن مداركنا ولا نعلم خصائصه لصعوبة ذلك علينا ، والمكان بهذا الاعتبار لا يخضع بحال من الأحوال لمقاييس المكان في حسابات المخلوقين ، فلا يمكن للمتكلمين أن يطبقوا هذه المقاييس على ملك الموت عندما يأتي لقبض الأرواح مع أنه مخلوق له ذات وكينونة منفصلة ، وهو مع ذلك لا يحجبه باب ولا جدار ولا يمنعه جب أو قرار كما قال رب العزة والجلال : } أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ { [النساء:78] ، فملك الموت مخلوق ولا يخضع في مكانه وزمانه لمقاييسنا التي يريدون بها الحكم على استواء الله على عرشه
ومن ثم لا يصلح أن نمنع دلالة الآيات والأحاديث ونحول معنى اسم الله العلي من علو الفوقية إلى علو الرتبة والمنزلة بحجة أننا لو أثبتناها لكان الله في مكان ، فعلو الشأن ثابت بدلالة اسمه الأعلى وعلو القهر ثابت بدلالة اسمه المتعال .
والرسول صلى الله عليه و سلم لما قال للجارية : أين الله ؟ علم صلى الله عليه و سلم أن أين للمكان ويعلم لوازم قوله ، ولو كان في ذلك خطأ وتشبيه وتجسيم كما يدعي البعض ما سأل الجارية بلفظ يحتمل معناه الخلاف ودواعي الاختلاف ، والجارية لما قالت : الله في السماء تعني العلو ، وشهد لها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالإيمان ، فلا إشكال عند الموحدين العقلاء في فهم حديث الجارية وقولها إن الله في السماء ، والأمر واضح جلي ظاهر ، فأي اعتراض على ذلك إنما هو اعتراض على رسول الله صلى الله عليه و سلم والرسول صلى الله عليه و سلم لما قال للجارية : أين الله ؟ علم صلى الله عليه و سلم أن أين للمكان ويعلم لوازم قوله ، ولو كان في ذلك خطأ وتشبيه وتجسيم كما يدعي البعض ما سأل الجارية بلفظ يحتمل معناه الخلاف ودواعي الاختلاف ، والجارية لما قالت : الله في السماء تعني العلو ، وشهد لها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالإيمان ، فلا إشكال عند الموحدين العقلاء في فهم حديث الجارية وقولها إن الله في السماء ، والأمر واضح جلي ظاهر ، فأي اعتراض على ذلك إنما هو اعتراض على رسول الله صلى الله عليه و سلم .
وعلو الفوقية أو علو الذات الذي دل عليه اسمه العلي ثابت على الحقيقة بالكتاب والسنة وإجماع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم ، فهو سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن من خلقه لا شيء من ذاته في خلقه ولا خلقه في شيء من ذاته ، وهو من فوق عرشه يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم ويرى أفعالهم لا تخفى منهم خافية ، والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصى وأجل من أن تستقصى ، والفطرة السليمة والنفوس المستقيمة مجبولة على الإقرار بذلك ، وسيأتي بإذن الله تعالى المزيد عند الحديث عن دلالة الأسماء على الصفات ، لكن كل الأدلة بقرائنها تجعل المعنى الذي دل عليه اسم الله العلي هو علو الذات والفوقية ، قال ابن خزيمة : ( والله قد وصف نفسه في غير موضع من تنزيله ووحيه وأعلمنا أنه العلي العظيم ، أفليس العلي يا ذوي الحجا ما يكون عليا ؟ لا كما تزعم المعطلة الجهمية أنه أعلى وأسفل ووسط ومع كل شيء وفي كل موضع من أرض وسماء ، وفي أجواف جميع الحيوان ، ولو تدبروا آية من كتاب الله ووفقهم الله لفهمها ؛ لعقلوا أنهم جهال لا يفهمون ما يقولون ، وبأن لهم جهل أنفسهم وخطأ مقالتهم )
العظيم
العَظِيمُ في اللغة يقال لمن اتصف بالعظمة ، فعله عَظمَ يَعْظم عِظما يعني كَبُرَ واتسع وعلا شأنه وارتفع ، ولِفلان عَظَمة عندَ النَّاسِ أَي حُرْمة يُعظَّمُ لها ، وأَعْظَمَ الأَمْرَ وعَظَّمَه فَخَّمه ، والتَّعْظِيمُ التَّبْجِيلُ ، والعَظِيمةُ والمُعَظَمةُ النازلةُ الشديدةُ والمُلِمَّةُ إِذا أَعْضَلَتْ ، والعَظَمَةُ الكِبْرِياءُ ، وعَظمَةُ العبدِ كِبْرُه المذمومُ وتَجَبره ، وإِذا وُصِفَ العبد بالعَظمة فهو ذَمٌّ لأَن العظمة في الحقيقةِ لله عز وجل ، وعند البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني من حديث ابْنَ عُمَرَ رضى الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ أَوِ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ )
والله عز وجل هو العظيم الذي جاوَزَ قَدْرُه حدود العقل وجل عن تَصور الإِحاطةُ بكنْهِه وحَقِيقتِه ، فهو العظيم الواسع الكبير في ذاته وصفته ، فعظمة الذات دل عليها كثير من النصوص منها ما ورد عند ابن حبان وصححه الألباني من حديث أبي ذر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ) ، وقد صح عن ابن عباس رضى الله عنه موقوفا : ( الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى )(والله عز وجل هو العظيم الذي جاوَزَ قَدْرُه حدود العقل وجل عن تَصور الإِحاطةُ بكنْهِه وحَقِيقتِه ، فهو العظيم الواسع الكبير في ذاته وصفته ، فعظمة الذات دل عليها كثير من النصوص منها ما ورد عند ابن حبان وصححه الألباني من حديث أبي ذر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ) ، وقد صح عن ابن عباس رضى الله عنه موقوفا : ( الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى ).
أما عظمة الصفات فالله عز وجل له علو الشأن كما قال في كتابه : } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { [الشورى:11] ، وقال أيضا : } رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً { [مريم:65] ، وإذا كان عرشه قد وصفه بالعظمة وخصه بالإضافة إليه والاستواء عليه ، فما بالك بعظمة الملك سبحانه الذي علا فوقه ، وينبغي أن نعلم أن عَظمة اللَّهِ في ذاته لا تُكَيَّفُ ولا تُحدُّ ، لطلاقة الوصف وعجزنا عن معرفته فنحن لم نره ولم نر له مثيل ، فالله عظيمٌ في ذاته ووصفه كما أخبر عن نفْسه أما عظمة الصفات فالله عز وجل له علو الشأن كما قال في كتابه : } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { [الشورى:11] ، وقال أيضا : } رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً { [مريم:65] ، وإذا كان عرشه قد وصفه بالعظمة وخصه بالإضافة إليه والاستواء عليه ، فما بالك بعظمة الملك سبحانه الذي علا فوقه ، وينبغي أن نعلم أن عَظمة اللَّهِ في ذاته لا تُكَيَّفُ ولا تُحدُّ ، لطلاقة الوصف وعجزنا عن معرفته فنحن لم نره ولم نر له مثيل ، فالله عظيمٌ في ذاته ووصفه كما أخبر عن نفْسه .
الله جل جلاله الشَّكُورُ
سمى الله نفسه الشكور علي سبيل الإطلاق ، فقد ورد الاسم منونا مرادا به العلمية ودالا علي كمال الوصفية ، وقد ورد مقترنا باسمه الغفور في موضعين الأول في قوله تعالى : ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) [فاطر:30] ، والثاني في قوله : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) [فاطر:34] ، وورد مقترنا بالحليم في قوله تعالى : ( إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) [التغابن:17].
الله جل جلاله الحَلِيمُ
اسم الله الحليم ورد في آيات كثيرة مطلقا منونا مقترنا باسم الله الغفور كما في قوله تعالى : ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) [البقرة:225] ، وورد مقترنا بالغني في قوله : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) [البقرة:263] ، واقترن بالشكور كما تقدم في الاسم السابق ، واقترن بالعليم في قوله : ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً ) [الأحزاب:51] ، وفي صحيح البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ : ( كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ).
الله جل جلاله الوَاسِعُ
اسم الله المبين ورد في القرآن مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد اقترن باسمه العليم في عدة مواضع منها قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [البقرة:115] ، وقد ورد مقيدا في قوله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَة ِ ) [النجم:32] ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وليس بحجة كما سبق.
الله جل جلاله العَلِيمُ
ورد اسم الله العليم في كتاب الله معرفا ومنونا مطلقا ومقيدا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، فمن ذلك قوله تعالى : ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) [البقرة:137] ، والاسم ورد مقرونا في الكتاب والسنة بأسماء أخرى كثيرة تحمل في اقترانها معان كبيرة سيأتي بيانها إن شاء الله عند الحديث عن دلالة الأسماء على الصفات ، فاقترن الاسم بالسميع والحكيم والعزيز والحليم والخلاق والقدير والفتاح والخبير ، وفي السنة ورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ) (2) ، وتجد الإشارة هنا إلى أن ما انطبقت عليه شروط الإحصاء من الأسماء التي تدل على صفة العلم اسم الله العليم فقط ، ولم تنطبق على العالم والعلام والأعلم لأنها جميعا لم ترد في القرآن والسنة إلا مضافة مقيدة ، وهي في حقيقتها أوصاف تدخل تحت دلالة اسم الله العليم .
الله جل جلاله التَّوابُ
ورد اسم الله التواب في القرآن في ستة مواضع معرفا بالألف واللام مطلقا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها كما في قوله تعالى : ( فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم ُ{ [البقرة/37]
وورد في خمسة مواضع منونا كما في قوله : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيم ٌ{ [النور10] ، وعند الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني من حديث عبد الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ ).
الشكور في اللغة على وزن فعول من صيغ المبالغة ، فعله شكر يشكر شكرا وشكورا وشكرانا ، فالشكور فعول من الشكر ، وأصل الشكر الزيادة والنماء والظهور ، وحقيقة الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه .
وشكر العبد على الحقيقة إنما هو إقرار القلب بإنعام الرب ونطق اللسان بإقرار الجنان وعمل الجوارح والأركان ، قال تعالى : } اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ { [سبأ:13] ، وفي صحيح البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه و سلم قال : (فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا ، أَمَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ .. الحديث ).
والشكور سبحانه هو الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء ، فيثيب الشاكر على شكره ويرفع درجته ويغفر ذنبه ، فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه ، وشكر الحق للعبد ثناؤه عليه بذكر إحسانه له.
ويذكر ابن القيم أن الشكور سبحانه هو أولى بصفة الشكر من كل شكور ، بل هو الشكور على الحقيقة فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه ، ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره ، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة ، ويشكر عبده بأن يثني عليه بين ملائكته وفي ملئه الأعلى ويلقي له الشكر بين عباده ، ويشكره بفعله فإذا ترك له شيئا أعطاه أفضل منه ، وإذا بذل له شيئا رده عليه أضعافا مضاعفة ، وهو الذي وفقه للترك والبذل وشكره على هذا وذاك ، ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزقها أعداؤه شكر لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيرا خضرا أقر أرواحهم فيها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها إلى يوم البعث فيردها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه ، ومن شكره سبحانه أنه يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا ويخفف به عنه يوم القيامة فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان وهو من أبغض خلقه إليه ، ومن شكره أنه غفر للمرأة البغي بسقيها كلبا كان قد جهده العطش حتى أكل الثرى.
قال ابن القيم : ( الشكور يوصل الشاكر إلى مشكوره ، بل يعيد الشاكر مشكورا وهو غاية الرب من عبده ، وأهله هم القليل من عباده ، قال الله تعالى : } وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ { [البقرة:172] .. وسمى نفسه شاكرا وشكورا ، وسمى الشاكرين بهذين الاسمين فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه ، وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلا ، وإعادته للشاكر مشكورا كقوله : } إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً { [الإنسان:22] ، ورضي الرب عن عبده به كقوله : } وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ { [الزمر:7] ، وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه كقوله : } وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ { [سبأ:13]
الحليم
الحليم في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالحلم ، فعله حلم يحلم حلما ، وصفة الحلم تعني الأناة ومعالجة الأمور بصبر وعلم وحكمة ، وفي مقابلها العجلة المفسدة لأمور الدين والدنيا ، قال تعالى في وصف نبي الله إبراهيم عليه السلام : } وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ { [التوبة:114] ، ويدخل في معنى الحِلم بلوغ الصبي الحلم أو مبلغ الرجال الحكماء العقلاء كما قال تعالى : } وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ { [النور:59] ، وقال : } فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ { [الصافات:101] ، يعني لديه أناة وبصيرة وحكمة من صغره
والحليم هو الذي يرغب في العفو ولا يسارع بالعقوبة : } فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ { [هود:75] وقوم شعيب قالوا استهزاءا : } يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ { [هود:87] ، يعني اصبر علينا أو دعنا على ما نحن فيه
والله سبحانه حليم متصف بالحلم ، والحلم صفة كريمة تقوم على الحكمة والعلم والصبر ، والحليم سبحانه صبور يتمهل ولا يتعجل ، بل يتجاوز عن الزلات ويعفو عن السيئات ، فهو سبحانه يمهل عباده الطائعين ليزدادوا من الطاعة والثواب ، ويمهل العاصين لعلهم يرجعون إلى الطاعة والصواب ، ولو أنه عجل لعباده الجزاء ما نجا أحد من العقاب ، ولكن الله سبحانه هو الحليم ذو الصَّفحِ والأناةِ ، استخلف الإنسان في أرضه واسترعاه واستبقاه في ملكه إلى يوم موعود وأجل محدود ، فأجل بحلمه عقاب الكافرين وعجل بفضله ثواب المؤمنين .
الواسع
والواسع في اللغة فعله وَسِعَ الشَّيءُ يَسَعُه سِعَة فهو وَاسِع ، وأَوْسَعَ الله عليك أَي أَغناكَ ، ورجل مُوسِعٌ يعني مَلِيءُ بالمال والثراء ، يقال : إناء واسع وبيت واسع ، ثم قد يستعمل في الغنى يقال فلان يعطي من سعة يعني من غنى ، وفلان واسع الرحل يعني غنيا ، وقال تعالى : } لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ { [الطلاق:7] ، وتَوَسَّعُوا في المجلس أَي تَفَسَّحُوا ، والسَّعة الغِنى والرفاهِية ووَسعَ عليه رَفَّهَه وأَغناه وقال تعالى : } وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ { [الأعراف:156] ، وسِعَتْ رحْمتُهُ كلَّ شيء ولكلِّ شيء وعلى كلِّ شيء ، والسعة تكون في العلم والإحسان وبسط النعم
والواسع المطلق هو الله تعالى له مطلق الجمال والكمال في سائر الأسماء والصفات والأفعال ، وعند البخاري من حديث عَائِشَةَ أنها قَالَتِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم : } قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ { [المجادلة:1] )، فالله واسِع وَسِعَ غِنَاه كل فَقِير وهو الكثيرُ العطاءِ ، يده سحاء الليل والنهار ، وسعت رَحْمَتَه كُلَّ شَيءٍ وهو المحيط بكل شيء ، وقد اقترن اسم الله الواسع باسمه العليم في غير موضع من كتابه كما ورد في قوله تعالى : } مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ { [البقرة:261] ، ذكر ابن القيم في بيان العلة في اقتران الاسمين ألا يستبعد العبد مضاعفة الأجر ولا يضيق عنها عطاؤه ، فإن المضاعف واسع العطاء ، واسع الغنى واسع الفضل ، ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق ، فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها ، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها ، فإن كرمه وفضله تعالى لا يناقض حكمته ، بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته ويمنعه من ليس من أهله بحكمته.
العليم
العليم في اللغة من أَبنية المبالغة ، عَلِيمٌ وزن فَعِيلٌ ، فعله عَلِم يعلَم عِلْماً ، ورجل عالمٌ وعَلِيمٌ ، والعِلْمُ نقيضُ الجهل ، ويجوز أَن يقال للإِنسان الذي عَلَّمه اللَّهُ عِلْماً من العُلوم عَلِيم ، كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام لما قال للملك : } اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ { [يوسف:55] ، وهو عليه السلام عليم على اعتبار محدودية علمه ومناسبته لقدره فهو ذو علم وموصوف بالعلم ، قال : } وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ { [يوسف:68] ، لكن شتان بين علم مقيد محدود وعلم مطلق بلا حدود ، سبحانه وتعالى في كمال علمه ، جل شأنه في إطلاق وصفه ، فعلمه فوق كل ذي علم كما قال عز وجل : } نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ { [يوسف:76] ، فالله عز وجل عليمُ بما كان وما هو كائن وما سيكونُ ، لم يَزَل عالِماً ولا يَزالُ عالماً بما كان وما يكون ، ولا يخفى عليه خافيةٌ في الأَرض ولا في السماء ، سبحانه أَحاطَ عِلْمُه بجميع الأَشياء باطِنِها وظاهرها ، دقِيقها وجليلها على أَتمّ الإِمكان (11) ، فاسم الله العليم اشتمل على مراتب العلم الإلهي التي تضمنها الاسم وهي أنواع .
أولها : علمه بالشيء قبل كونه وهو سر الله في ملكه ، ضن به ربنا على خلقه ، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وهذه المرتبة من العلم هي علم التقدير ومفتاح كل ما سيصير ، من هم أهل الجنة ومن هم أهل السعير ؟ فكل أمور الغيب قدرها في الأزل ومفتاحها عنده وحده ولم يزل ، كما قال تعالى : } إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ { [لقمان:34] ، وقال سبحانه : } قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ { [النمل:65].
وثانيها : علمه بالشيء وهو في اللوح المحفوظ بعد كتابته وقبل إنفاذ أمره ومشيئته فالله عز وجل كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة ، والمخلوقات في اللوح قبل إنشائها عبارة عن كلمات وتنفيذ ما في اللوح من أحكام تضمنتها الكلمات مرهون بمشيئة الله في تحديد الأوقات التي تناسب أنواع الابتلاء في خلقه ، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حساب وتقدير ، وكيف ومتى يتم الإبداع والتصوير ؟ كما قال تعالى : } أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ { [الحج:70] ، وقال أيضا : } مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا { [الحديد:23].
وثالثها : من مراتب العلم الذي دل عليه اسمه العليم علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه ووقت خلقه وتصنيعه ، كما قال تعالى : } اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار ٍعَالمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَال { [الرعد:8] وقال تعالى : } يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ { [سبأ:2]
ورابعها : علمه بالشيء بعد كونه وتخليقه ، وإحاطته بالفعل بعد كسبه وتحقيقه فالله عز وجل بعد أن ذكر مراتب العلم السابقة في قوله تعالى : } وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ { [الأنعام:59] ذكر بعدها المرتبة الأخيرة فقال : } وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْل وَيَعْلمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليُقْضَي أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ { [الأنعام:60] ، وقال أيضا : } قَدْ عَلمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ { [قّ:4] ، وقال : } أَلمْ يَعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلامُ الغُيُوبِ { [التوبة:78] ، فالله عز وجل عالم بما كان ، وما هو كائن ، وما سيكون ، وما لو كان كيف يكون على ما اقتضته حكمته البالغة.
التواب
التواب في اللغة من صيغ المبالغة ، فعله تاب يتوب توبا وتوبة ، والتوبة الرجوع عن الشيء إلى غيره وترك الذنب على أجمل الوجوه وهو أبلغ وجوه الاعتذار ، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه : إما أن يقول المعتذر لم أفعل ، أو يقول فعلت لأجل كذا أو يقول : فعلت وأسأت وقد أقلعت ولا رابع لذلك وهذا الأخير هو التوبة .
والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه ، والندم على ما فرط في حق الناس وحق ربه والعزم على ترك المعاودة لذنبه ، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من صالح عمله ، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة ، قال تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا { [التحريم:8] ، قال الثعالبي : ( حقيقة التوبة الإقلاع عن المعاصي والإقبال والرجوع إلى الطاعات ، ويلزمها الندم على ما فات والعزم على ملازمة الخيرات )(14) ، والتائب يقال لباذل التوبة ولقابل التوبة ، فالعبد تائب إلى اللَّه ، واللَّه تائب على عبده (15)، والتوبة لازمة لجميع المذنبين والعاصين صغر الذنب أو كبر وليس لأحد عذر في ترك التوبة بعد ارتكاب المعصية لأن المعاصي كلها توعد اللَّه عليها أهلها .
والتواب سبحانه هو الذي يقبل التوبة عن عباده ، سمي توابا لكثرة قبوله توبة العباد حالا بعد حال ، فما من عبد عصاه وبلغ عصيانه مداه ثم رغب في التوبة إلى الله إلا فتح له التواب أبواب رحمته وفرح بتوبة عبده وعودته ما لم تغرغر النفس أو تطلع الشمس من مغربها ، فمنْ حديث أَبِي مُوسَى رضى الله عنه مرفوعا : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) (17) ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِر ).
وحتى لو اتبع الإنسان هواه أو استجاب لشيطانه وتمادى في جرمه وعصيانه فقتل مائة نفس وارتكب كل إثم وأراد التوبة والغفران تاب عليه التواب وبدل له عدد ما فات من السيئات بنفس أعدادها حسنات ، قال تعالى : } فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا { [الفرقان:71] ، وروى الترمذي وصححه الألباني من حديث أَنَس بْن مَالِكٍ رضى الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ : ( قَالَ اللَّهُ : يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ).
هذا فضلا عن فرح التواب بتوبة عبده وعودته إلى ربه ، فمن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه مرفوعا : ( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا ) (20) ، فانظر إلى عظمة التوبة التي دل عليها اسمه التواب ، إن المذنب مخطئ في جنب الله وعظم الذنب يقاس بعظم من أخطأت في حقه وهو المولى جل في علاه ، فلو قبل توبة المذنب فإن مجرد القبول فقط كرم بالغ ، ومنة من الله على عبده ، فما بالنا وهو يقبل توبة المذنب بعفو جديد وفرح شديد ويجعل في مقابل الذنوب بالتوبة أجرا كبيرا .
ويذكر ابن القيم أن توبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها ، فتوبته بين توبتين من الله سابقة ولاحقة ، فإنه تاب عليه أولا إذنا وتوفيقا وإلهاما ، فتاب العبد فتاب الله عليه ثانيا قبولا وإثابة ، قال تعالى : } وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ { [التوبة:118] ، فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم وأنها هي التي جعلتهم تائبين فكانت سببا ومقتضيا لتوبتهم ، فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم ، والحكم ينتف لانتفاء علته ، فالعبد تواب والله تواب ، فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الإباق ، وتوبة الله نوعان : إذن وتوفيق ، وقبول وإمداد (21) ، قال ابن القيم:
وكذلك التواب من أوصافه : والتوب في أوصافه نوعان
إذن بتوبة عبده وقبولها : بعد المتاب بمنة المنان
أبو حامد : ( التواب هو الذي يرجع إلى تيسير أسباب التوبة لعباده مرة بعد أخرى بما يظهر لهم من آياته ويسوق إليهم من تنبيهاته ويطلعهم عليه من تخويفاته وتحذيراته ، حتى إذا اطلعوا بتعريفه على غوائل الذنوب استشعروا الخوف بتخويفه فرجعوا إلى التوبة فرجع إليهم ).
الله جل جلاله الحَكِيمُ
ورد اسم الله الحكيم في كثير من النصوص القرآنية والنبوية ، قال تعالى : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) [البقرة:129] ، والاسم ورد مقترنا في أغلب المواضع باسمه العزيز كقوله : ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) [آل عمران:6] ، وورد أيضا مقترنا باسمه الخبير وكذلك العليم .
وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مرفوعا : ( .. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ : ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ{ قَالَ : فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ).
الله جل جلاله الغَنِيُّ
اسم الله الغني ورد في القرآن مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما ورد في قوله تعالى : ( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) [الأنعام:133] ، وقوله تعالى : ( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) [يونس:68] ، وغالبا ما يقترن اسم الله الغني باسمه الحميد ، كقوله : ( لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) [الحج:64] ، واقترن اسم الله الغني بالحليم والكريم .
وفي سنن أبي داود وحسنه الألباني والحاكم في المستدرك وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، من حديث عروة عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مرفوعا : ( اللهُمَّ أَنْتَ اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ ، أَنْتَ الْغَنِىُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ أَنْزِلْ عَليْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لنَا قُوَّةً وَبَلاَغًا إِلى حِينٍ ).
الله جل جلاله الكَريمُ
سمى الله نفسه الكريم على سبيل الإطلاق معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في كثير من النصوص القرآنية والنبوية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه نحو قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ) [الانفطار:6/7] ، وقوله : ( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) [النمل:40]
وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَلِىٍّ رضي الله عنه أنه قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ( أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلتَهُنَّ غَفَرَ اللهُ لَكَ وَإِنْ كُنْتَ مَغْفُورًا لَكَ ، قَالَ : قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَلِىُّ العَظِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (3) ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث سَلمَانَ رضي الله عنه أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) (4) ، وعند الترمذي وقال حَسَنٌ صَحِيحٌ من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها في الدعاء الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ليلة القدر : ( اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى ).
الله جل جلاله الأَحَدُ
اسم الله الأحد ثبت في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق ، وقد ورد مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قول الله تعالى : ( قُل هُوَ اللهُ أَحَد اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد ٌ{ [الإخلاص:1/4] ، فالاسم ورد في السورة مطلقا منونا ، وقد أسند إليه تفسير معناه بما ورد بعده ، كما ورد معرفا بالألف واللام عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله تعالى كذَّبني ابنُ آدمَ ولم يكُن له ذلك ، وشَتَمني ولم يكن له ذلك فأَما تكذيُبهُ إيايَ فقوله : لن يعيدني كما بدأنِي وليس أوَّلُ الخلقِ بأَهونَ عليَّ من إعادته ، وأما شتمُهُ إيايَ فقولُه : اتَّخَذَ اللَّهُ ولداً وأَنا الأَحدُ الصمدُ ، لم أَلِدْ ولم أُولَد ولم يكُن لي كُفواً أحد ).
وورد عند ابن ماجة أيضا وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ : ( سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَقُولُ : اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ).
الله جل جلاله الصَُّمَدُ
اسم الله الصمد ورد مع اسمه الأحد في سورة الإخلاص فقط : ( قُل هُوَ اللهُ أَحَد اللهُ الصَّمَدُ ) ، وقد ورد في السنة في عدة مواضع منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري وقد تقدم ، وعنده أيضا من حديث أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال : ( قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابِهِ : أَيعجِزُ أحدُكم أن يقرَأَ ثلثَ القرآن في ليلة ؟ فشقَّ ذلك عليهم وقالوا: أَيُّنا يطيقُ ذلك يا رسول الله ؟ فقال: اللهُ الواحِدُ الصَّمَدُ ثلث القرآنِ ) (8) ، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : (خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ : ( قل هو الله أحد الله الصمد ) حتى ختمها ) (9) ، وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قال : ( كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبَّكَ الأَعْلَى ، وَقُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، وَالله الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ).
الحكيم
الحكيم في اللغة صيغة مبالغة على وزن فعِيلٌ بمعنى فاعِلٍ ، فعله حكم يحكم حكما وحكومة ، والحكيم يأتي على عدة معان منها الإحاطة والمنع ، فحكم الشيء يعني منعه وسيطر عليه وأحاط به ، ومنها حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت رضى الله عنه
فنحكم بالقوافي من هجانا : ونضربُ حين تختلط الدماء
أي نمنع بالقوافي من هجانا وقول الآخر
أبني حنيفة حكموا سفهاءكم : إني أخاف عليكمو أن أغضبا
أي امنعوا سفهاءكم ، ويأتي الحكيم على معنى المدقق في الأمور المتقن لها فالحكيم هو الذي يُحْكِمُ الأَشياء ويُحْسِنُ دقائق الصِّناعات ويُتقنها ، ويقال للرجل إِذا كان حكيماً قد أَحْكَمَتْه التجاربُ .
والحكيم أيضا هو الذي يُحْكِم الأمر ويقضي فيه ويفصل دقائقه ويبين أسبابه ونتائجه ، فالحَكِيمُ يجوز أَن يكون بمعنى حاكِمِ مثل قَدِير بمعنى قادر وعَلِيمٍ بمعنى عالِمٍ واسْتَحْكَمَ الرجلُ إِذا تناهى عما يضره في دينه أَو دُنْياه .
والحكمة في الشرع عرفها ابن جرير الطبري بقوله : ( والصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه و سلم والمعرفة بها وما دل عليه ذلك من نظائره ، وهو عندي مأخوذ من الحكم الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل بمنزلة الجلسة والقعدة من الجلوس والقعود ، يقال منه إن فلانا لحكيم بين الحكمة يعني به أنه لبين الإصابة في القول والفعل ).
الحكيم سبحانه هو المتصف بحكمة حقيقية عائدة إليه وقائمة به كسائر صفاته والتي من أجلها خلق فسوى ، وقدر فهدى ، وأسعد وأشقى ، وأضل وهدى ، ومنع وأعطى ، فهو المحكم لخلق الأشياء على مقتضى حكمته ، وهو الحكيم في كل ما فعله وخلقه حكمة تامة اقتضت صدور هذا الخلق ونتج عنها ارتباط المعلول بعلته والسبب بنتيجته وتيسير كل مخلوق لغايته ، وإذا كان الله عز وجل يفعل ما يشاء ولا يرد له قضاء ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، إلا أنه الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها ويعلم خواصها ومنافعها ويرتب أسبابها ونتائجها .
قال ابن القيم : ( الحكيم من أسمائه الحسنى والحكمة من صفاته العلى ، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة ، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة ، والحكمة هي سنة الرسول وهي تتضمن العلم بالحق والعلم به والخبر عنه والأمر به فكل هذا يسمى حكمة ، وفي الأثر الحكمة ضالة المؤمن ، وفي الحديث إن من الشعر حكمة ، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده ، وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدا استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره ، فمصدر ذلك كله عن الحكمة ).
الغني
الغني في اللغة صفة مشبهة لمن اتصف بالغنى فعله غَنِي غِنىً واسْتَغْنَى واغْتَنَى فهو غَنِيٌّ ، والغنى في حقنا قلة الاحتياج وهو مقيد نسبي ، ويتحقق غالبا بالأسباب التي استُؤمِن عليها الإنسان واستخلفه الله فيها كالأموال والأقوات التي يدفع بها عن نفسه الحاجات ومختلف الضروريات (8) ، قال تعالى : } إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ { [التوبة:93] ، وقال : } وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ { [النساء:6].
والغِنى إن تعلق بالمشيئة فهو وصف فعل كقوله تعالى : } وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ { [التوبة:28] ، وقوله : } وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى { [النجم:48] ، وإن لم يتعلق بالمشيئة فهو وصف ذات كقوله تعالى : } وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ { [آل عمران:97] ، وكقوله : } يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ { [فاطر:15].
والغني سبحانه هو المستغني عن الخلق بذاته وصفاته وسلطانه ، والخلق جميعا فقراء إلى إنعامه وإحسانه ، فلا يَفتقر إِلى أَحدٍ في شيءٍ ، وكلُّ مخلوق مفتقر إِليه ، وهذا هو الغنى المُطْلَق ، ولا يُشارِك اللَّهَ تعالى فيه غيرُه ، والغني أيضا هو الذي يُغني من يشاءُ من عِباده على قدر حكمته وابتلائه ، وأي غني سوى الله فغناه نسبي مقيد ، أما غنى الحق سبحانه فهو كامل مطلق ، ومهما بلغ المخلوق في غناه فهو فقير إلى الله لأن الله هو المنفرد بالخلق والتقدير والملك والتدبير فهو المالك لكل شيء المتصرف بمشيئته في خلقه أجمعين ، يعطي من يشاء ما يشاء من فضله ، وقسم لكل مخلوق ما يخصه في حياته ورزقه ، عطاؤه لا يمتنع ومدده لا ينقطع وخزائنه ملأى لا تنفد ، روى البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( يَدُ اللَّهِ مَلأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا في يَدِهِ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ) (9)، وعند مسلم من حديث أَبِي ذَرٍّ الغفاري رضى الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه و سلم قال فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى أَنَّهُ قَال : ( يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ ، أُحْصِيهَا لكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ) .
فالغني على سبيل الإطلاق والقيام بالنفس هو الله وليس ذلك لأحد سواه ، فهو الغني بذاته عن العالمين ، المستغني عن الخلائق أجمعين ، واتصاف غير الله بالغنى لا يمنع كون الحق متوحدا في غناه ، لأن الغنى في حق غيره مقيد وفي حق الله مطلق ، وهذا واضح معلوم وذلك مضطرد في جميع أوصافه باللزوم .
الكريم
الكريم صفة مشبهة للموصوف بالكرم ، والكَرَم نقيض اللُّؤْم يكون في الرجل بنفسه وإِن لم يكن له آباء ، ويستعمل في الخيل والإِبل والشجر وغيرها ، كَرُمَ الرجل كَرَماً وكَرَامة فهو كَرِيم وكَرِيمةٌ وجمع الكَرِيم كُرَماء ، والكريم هو الشيء الحسن النفيس الواسع السخي ، والفرق بين الكريم والسخي أن الكريم هو كثير الإحسان بدون طلب والسخي هو المعطى عند السؤال ، والكرم السعة والعظمة والشرف والعزة والسخاء عند العطاء (12) ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ ).
والله سبحانه هو الكريم الواسع في ذاته وصفاته وأفعاله ، من سعته وسع كرسيه السماوات والأرض كما قال : } وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ { [البقرة:255] ، ووصف عرشه بالكرم فقال : } فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ { [المؤمنون:116] ، وهو الكريم له العزة والعظمة والمجد والرفعة والعلو فلا سميَّ له كما قال : } رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً { [مريم:65] ، وهو الذي كرم الإنسان لما حمل الأمانة وشرفه واستخلفه في أرضه وأستأمنه في ملكه وفضله على كثير من خلقه كما قال : } وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً { [الإسراء:70] ، وهو الذي بشر عباده المؤمنين بالأجر الكريم الواسع والمغفرة الواسعة والرزق الواسع قال تعالى : } أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ { [الأنفال:4] ، وقال سبحانه : } إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ { [يس:11] ، وهو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه ولا ينقطع سحاؤه ، الذي يعطي ما يشاء لمن يشاء وكيف يشاء بسؤال وغير سؤال ، وهو يعفو عن الذنوب ويستر العيوب ويجازي المؤمنين بفضله فيمنحهم الثواب الجزيل في مقابل العمل القليل .
الأحد
الأحد في اللغة اسم فاعل أو صفة مشبهة للموصوف بالأحدية ، فعله أحد يأحد تأحيدا وتوحيدا ، أي حقق الوحدانية لمن وحده ، وهو اسم بني لنفى ما يذكر معه من العدد ، تقول ما جاء بي أحد ، والهمزة فيه بدل من الواو ، وأصله وحد لأنه من الوحدة ، والفرق اللغوي بين الواحد والأحد أن الأحد شيء بني لنفي ما يذكر معه من العدد ، والواحد اسم لمفتتح العدد ، وأحد يصلح في الكلام في موضع الجحود والنفي ، وواحد يصلح في موضع الإثبات ، يقال ما أتاني منهم أحد فمعناه لا واحد أتاني ولا اثنان ، وإذا قلت جاءني منهم واحد فمعناه أنه لم يأتني منهم اثنان ، فهذا حد الأحد ما لم يضف ، فإذا أضيف قرب من معنى الواحد وذلك أنك تقول : قال أحد الثلاثة كذا وكذا ، وأنت تريد واحدا من الثلاثة.
والأحد سبحانه وتعالى هو المنفرد بنفسه ووصفه المباين لغيره ، كما قال تعالى في معنى الأحدية : } وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد { [الإخلاص:4] ، فالأحدية هي الانفراد ونفي المثلية ، وتعني انفراده سبحانه بذاته وصفاته وأفعاله عن الأقيسة والقواعد والقوانين التي تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم كما قال تعالى : } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { [الشورى:11] ، فبين انفراده عن كل شيء من أوصاف المخلوقين بجميع ما ثبت له من أوصاف الكمال ، فالأحد هو المنفرد الذي لا مثيل له فنحكم على كيفية أوصافه من خلاله ولا يستوي مع سائر الخلق فيسري عليه قانون أو قياس أو قواعد تحكمه كما تحكمهم ، لأنه المتصف بالتوحيد المنفرد عن أحكام العبيد وقال تعالى : } هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً { [مريم:65] ، أي شبيها مناظرا يدانيه أو يساويه أو يرقى إلى سمو ذاته وصفاته وأفعاله.
الصمد
الصمد في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالصمدية ، فعله صَمَدَ يَصْمِدُ صَمْداً وهو يأتي على عدة معان : منها السَّيِّدُ المُطاع الذي لا يُقْضى دونه أَمر ، ومنها الصَّمد الذي يطعم ولا يَطْعَم ومنها الصَمد السيِّد الذي ينتهي إِليه السُّؤدَد في كل شيء فله الصمدية المطلقة ، وقيل : الصمد الدائم الباقي بعد فناء خَلقه ، وقيل : هو الذي يُصمَد إِليه الأَمر فلا يُقْضَى دونه فليس فوقه أَحد ، وقيل الصمد الذي صَمَدَ إِليه كل شيء أي الذي خَلق الأَشياء كلها لا يَسْتَغْني عنه شيء ، وكلها تدل على وحدانية الله .
وقال ابن الجوزي : ( وفي الصمد أربعة أقوال : أحدها أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج رواه ابن عباس رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضى الله عنه قال : الصمد السيد الذي قد كمل في سؤدده ، قال أبو عبيدة : هو السيد الذي ليس فوقه أحد ، والعرب تسمي أشرافها الصمد ، وقال ابن الأنباري لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد السيد الذي ليس فوقه أحد يصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم ، والثاني : أنه لا جوف له قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي ، والثالث : أنه الدائم ، والرابع : الباقي بعد فناء الخلق حكاهما الخطابي ، وقال : أصح الوجوه الأول لأن الاشتقاق يشهد له ، فإن أصل الصمد القصد ، يقال : اصمد فلان أي اقصد فلان فالصمد السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويقصد في الحوائج ).
وخلاصة المعاني في الصمدية أن الصمد هو السيد الذي له الكمال المطلق في كل شيء ، وهو المستغني عن كل من سواه ، وكل من سواه مفتقر إليه يصمد إليه ويعتمد عليه ، وهو الكامل في جميع صفاته وأفعاله ، لا نقص فيه بوجه من الوجوه وليس فوقه أحد في كماله ، وهو الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وسائر أمورهم فالأمور أصمدت إليه وقيامها وبقاؤها عليه لا يقضي فيها غيره ، وهو المقصود إليه في الرغائب والمستغاث به عند المصائب ، وهو الذي يطعم ولا يَطْعَم .
الله جل جلاله القَرِيبُ
ورد اسم الله القريب في القرآن الكريم مطلقا منونا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ومقترنا باسم الله المجيب كما في قوله تعالى : ( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ) [هود:61] ، واقترن باسمه السميع في قوله : ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) [سبأ:50] ، وورد الاسم مفردا في قوله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) [البقرة:186] ، ولم يرد الاسم إلا في حديث سرد الأسماء عند ابن ماجة من رواية عبد الملك بن محمد الصنعاني ، وهي ليست حجة في إثبات الأسماء الحسنى كما تقدم .
الله جل جلاله المُجيبُ
سمى الله نفسه المجيب على سبيل الإطلاق والتعظيم ، وقد ورد الاسم معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) [الصافات:75] ، وقوله سبحانه : ( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ) [هود:61] ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وابن ماجة.
الله جل جلاله الغَفُورُ
اسم الله الغفور ورد مطلقا معرفا ومنونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، ففي أحد عشر موضعا من القرآن ورد معرفا بالألف واللام كما في قوله تعالى : ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم ُ{ [الحجر49] وقوله : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) [الكهف:58] ، وفي اثنين وسبعين موضعا ورد منونا كقوله تعالى : ( وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [البقرة:199]
وعند البخاري من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أن أبا بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه قَالَ لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ : ( قُلِ اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ ، وَارْحَمْنِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .
وعند أبي داود وصححه الألباني عن وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( صَلي بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : اللهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَمْدِ ، اللهُمَّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )
الله جل جلاله الوَدودُ
اسم الله الودود ورد مطلقا معرفا ومنونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، قال تعالى : ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ) [البروج:14/15] ، وقال أيضا : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) [هود:90] ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وهو ضعيف كما تقدم.
الله جل جلاله الوَلِيُّ
ورد الاسم مطلقا معرفا في قوله تعالى : ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الشورى:9] ، وقوله سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيد ُ{ [الشورى:28] وقد ورد مقيدا في نصوص أخرى كثيرة كقوله تعالى : ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ) [البقرة:257] ، وقوله : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) [المائدة:55].
وعند البخاري من حديث عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رضي الله عنه أنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ : ( إِنَّ آلَ أَبِى لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا ) (3) ، يَعْنِي أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا
القريب
القريب في اللغة فعيل بمعنى اسم الفاعل يدل على صفة القرب ، والقُرْبُ في اللغة نقيضُ البُعْدِ ، قَرُبَ الشيءُ يَقْرُبُ قُرْباً وقُرْباناً أَي دَنا فهو قريبٌ ، والقرب في اللغة على أنواع ، منه قرب المكان كقوله تعالى : } إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا { [التوبة:28] ، وقرب الزمان نحو قوله : } وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ { [الأنبياء:109] ، وقد يكون القرب في النسب والأهل نحو قوله تعالى : } لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ { [النساء:7] ، وكذلك من معاني القرب قرب الحظوة والمنزلة نحو قوله تعالى : } فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ { [الواقعة:88/89].
والقريب سبحانه هو القريب من فوق عرشه أقرب إلى عباده من حبل الوريد كما قال سبحانه : } وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ { [ق:16] ، وقال : } وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ { [الواقعة:85] ، والقرب في الآيتين إما أن يكون على حقيقته باعتبار ما ورد عن ابن عباس رضى الله عنه حيث قال : ( ما السموات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم ) (2)، وروى ابن حبان وصححه الألباني من حديث أبي ذر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ) (3) ، فهذا قرب مطلق بالنسبة لله عز وجل لأنه قريب غير ملاصق ، والمخلوقات كلها بالنسبة إليه تتقارب من صغرها إلى عظمة ذاته وصفاته ، وهو بعيد غير منقطع بالنسبة لمقاييسنا فلا يقدر أحد على إحاطة أبعاد ما بين العرش والأرض من سعتها وامتدادها قال ابن منده : ( فهو سبحانه وتعالى موصوف غير مجهول وموجود غير مدرك ومرئي غير محاط به لقربه كأنك تراه ، قريب غير ملاصق وبعيد غير منقطع ، وهو يسمع ويرى وهو بالمنظر الأعلى وعلى العرش استوى فالقلوب تعرفه والعقول لا تكيفه وهو بكل شيء محيط ).
وقد يكون القرب قرب الملائكة لأنه ذكر في سياق الآية قرينة تدل على قرب الملائكة حيث قال : } وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ { [ق:16/17] ، فيجوز هنا أن يكون القرب قرب الملكين ، وأما القرب الوارد في آية الواقعة فهو مقيد بحال الاحتضار لأن الذي يحضر وقتها الملائكة كما قال : } حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا { [الأنعام:61] ، كما أن قوله وأنتم لا تبصرون فيه دليل على أنهم الملائكة ، إذ يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره.
فالله عز وجل قريب من فوق عرشه ، عليم بالسرائر يعلم ما تكنه الضمائر ، وهو قريب بالعلم والقدرة في عامة الخلائق أجمعين ، وقريب باللطف والنصرة وهذا خاص بالمؤمنين ، من تقرب منه شبرا تقرب منه زراعا ومن تقرب منه زراعا تقرب منه باعا وهو أقرب إلى العبد من عنق راحلته (6)، وهو أيضا قريب من عبده بقرب بملائكته الذين يطلعون على سره ويصلون إلى مكنون قلبه .
المجيب في اللغة اسم فاعل ، فعله أجاب يجيب جوابا وإجابة واستجابة ، والإجابة صدى الكلام أو ترديده ، أو المحاورة في الكلام ورد السؤال (8) ، وعند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت : ( وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلاَ مُجِيبٌ ) (9) ، والإجابة كذلك إجابة المحتاج بالعطية والنوال ، وإعطاء الفقير عند السؤال ، فللمجيب معنيان إجابة السائل بالعلم وإجابة النائل بالمال.
والمُجِيب سبحانه هو الذي يُقابِل السؤالَ والدُّعاء بالقَبُول والعَطاء ، وهو اسْمُ فاعلٍ من أجاب يُجيب ، والله هو المجيب الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويغيث الملهوف إذا ناداه ، ويكشف السوء عن عباده ويرفع البلاء عن أحبائه ، وكل الخلائق مفتقرة إليه ، ولا قوام لحياتها إلا عليه ، لا ملجأ لها منه إلا إليه ، قال تعالى : } يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ { [الرحمن: 29] ، فجميع الخلائق تصمد إليه وتعتمد عليه (10) ، وشرط إجابة الدعاء صدق الإيمان والولاء ، فالله حكيم في إجابته ، قد يعجل أو يؤجل على حسب السائل والسؤال ، أو يلطف بعبده باختياره الأفضل لواقع الحال ، أو يدخر له ما ينفعه عن المصير والمآل ، لكن الله تعالى يجيب عبده حتما ولا يخيب ظنه أبدا كما وعد وقال وهو أصدق القائلين : } وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ { [البقرة:186] وقال أيضا : } وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ { [غافر:60] ، ومن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدُعَاءٍ إِلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ ، فَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ في الدُّنْيَا وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ في الآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا دَعَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ يَسْتَعْجِلُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُ ؟ قَالَ : يَقُولُ دَعَوْتُ رَبِّي فَمَا اسْتَجَابَ لي ).
الغفور
الغفور في اللغة على وزن فعول وهي من صيغ المبالغة التي تدل على الكثرة في الفعل ، فعله غفر يغفر غفرا ومغفرة ، وأَصل الغَفرِ التغطية والستر ، وكل شيء سترته فقد غفرته ، والمغفر غطاء الرأس ، والمغفرة التغطية على الذنوب والعفو عنها ، غَفَرَ الله ذنوبه أَي سترها (12) ، وعند البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ ، فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ أَيْ رَبِّ ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ ، قَالَ : سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ : هَؤُلاَءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ )
والغفور سبحانه هو الذي يستر العيوب ويغفر الذنوب ، ومهما بلغ الذنب أو تكرر من العبد وأراد الرجوع إلى الرب فإن باب المغفرة مفتوح في كل وقت لأن الله عز وجل هو الغفور ، واسم الله الغفور يدل على دعوة العباد للاستغفار بنوعيه ، العام والخاص ، فالاستغفار من العبد على نوعين :
الأول : الاستغفار العام ، وهو الاستغفار من صغائر الذنوب ، وما يدور من خواطر السوء في القلوب ، فالقلب فيه منطقتان ، منطقة حديث النفس ، ومنطقة الكسب ، فمن المنطقة الأولى تخرج الخواطر التي تتطلب الاستغفار العام ، وهي خواطر النفس الأمارة كما ورد في قوله سبحانه وتعالى : } وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ { [يوسف:53] ، وعند البخاري من حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ : ( وَاللهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) (14) ، وعند مسلم من حديث الأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ) (15) .
الثاني : الاستغفار الخاص وهو متعلق بمنطقة الكسب بعد اقتراف الإثم وتعمد الفعل ، كقوله تعالى : } وَالذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً { [الفرقان:70] .
والمسلم لا بد أن يستغفر الله استغفارا عاما وخاصا ، وهذه طبيعة البشر التي خلقوا عليها ؛ الخطأ وطلب المغفرة ، روى الترمذي وحسنه الألباني من حديث أَنَسٍ أَنَّ النَّبِي قَالَ : ( كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ) (16) ، وعند مسلم من حديث أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضى الله عنه أن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( لَوْ أَنَّكُمْ لَمْ تَكُنْ لَكُمْ ذُنُوبٌ يَغْفِرُهَا اللهُ لَكُمْ لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ لَهُمْ ذُنُوبٌ يَغْفِرُهَا لَهُمْ ) (17).
الودود :
الودود في اللغة من صيغ المبالغة ، والودُّ مصدر المودَّة ، فعله وَدَّ الشيءَ وُدّاً ووِدّاً ووَدَّاً ، والود بمعنى الأمنية ومنه قوله تعالى : } يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ { [البقرة:96] ، والودُّ أيضا بمعنى المحبة كما في قوله : } لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ { [المجادلة:22] ، والودود في اللغة أيضا قد يأتي على معنى المعية والمرافقة والمصاحبة كلازم من لوازم المحبة ، كما ورد عند مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضى الله عنه : ( أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ ، فَسَلمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ لَهُ : أَصْلَحَكَ اللهُ إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ : إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ : إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ ) (18) .
والودود سبحانه هو المحب لرسله وأوليائه المتودد إليهم بالمغفرة والرحمة ، فيرضى عنهم ويتقبل أعمالهم ويوددهم إلى خلقه بأن يحبهم ويحببهم إلى عباده ، كما قال تعالى : } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً { [مريم:96] ، وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ في أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ في الأَرْضِ ) (19)، قال ابن عباس رضى الله عنه : ( الودود الحبيب المجيد الكريم )(20) .
والله عز وجل ودود يؤيد رسله وعباده الصالحين بمعيته الخاصة ، فلا يخيب رجاءهم ولا يرد دعاءهم وهو عند حسن ظنهم به ، وهو الودود لعامة خلقه بواسع كرمه وسابغ نعمه ، يرزقهم ويؤخر العقاب عنهم لعلهم يرجعون إليه (21) .
قال ابن القيم : ( وأما الودود ففيه قولان : أحدهما أنه بمعنى فاعل وهو الذي يحب أنبياءه ورسله وأولياءه وعباده المؤمنين ، والثاني أنه بمعنى مودود وهو المحبوب الذي يستحق أن يحب الحب كله ، وأن يكون أحب إلى العبد من سمعه وبصره وجميع محبوباته ) (22).
الولي :
الولي في اللغة من صيغ المبالغة من اسم الفاعل الوالي ، فعله وَلِيَ يَلِي وَلْيا وولاءً وَوِلايةً ، والولي هو الذي يلي غيره بحيث يكون قريبا منه بلا فاصل ، ويكون ذلك في المكان أو النسب أو النسبة ، ويطلق الولي أيضا على الوالد والناصر والحاكم والسيد (23) ، والولاية تولي الأمر كقوله تعالى : } فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ { [البقرة:282] وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم قال : ( إِذَا صَنَعَ لأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ وَقَدْ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُلْ ) (24) .
والولي سبحانه هو المُتَوَلي لأُمُور خلقه ، القَائِم بأمره على تدبير ملكه ، يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه كما قال سبحانه } وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَحِيمٌ { [الحج:65] ، وقال : } أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ { [الرعد:33] ، وولاية الله لعباده على وجهين :
الوجه الأول : الولاية العامة وهي ولاية الله لشئون عباده ، وتكفله بأرزاقهم وتدبيره لأحوالهم ، وتمكينهم من الفعل والاستطاعة ، وذلك بتيسير الأسباب ونتائجها وترتيب المعلولات على عللها ، وتلك هي الولاية العامة التي تقتضي العناية والتدبير ، وتصريف الأمور وتدبير المقادير ، فالله عز وجل من فوق عرشه قريب من عباده كما قال سبحانه : } وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد ِ{ [قّ:16] .
الوجه الثاني : ولاية الله للمؤمنين وهي ولاية حفظ وتدبير سواء كان تدبيرا كونيا أو شرعيا فإن الإرادة الكونية والشرعية عند السلف تجتمعان في المؤمن وتفترقان في الكافر حيث تتوافق إرادة المؤمن مع الإرادة الشرعية والكونية معا ، والكافر يخالف الشرعية ويوافق الكونية حتما (25) ، فالولاية الخاصة ولاية حفظ وعصمة ومحبة ونصرة سواء كان في تدبير الله الكوني أو الشرعي كما قال الله عز وجل : } اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { [البقرة:257] ، وشرط هذه الولاية الإيمان وتحقيق الإخلاص والمتابعة ، قال تعالى : } أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ { [يونس:63] ، وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم قال : ( إن اللَّه قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب .. الحديث ) (26) ، فولاية الله لعباده المؤمنين مقرونة بولايتهم لربهم ، فولايتهم ولاية حفظ لحدوده والتزام بتوحيده ، قال تعالى : } قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ { [الأنعام:14].
الله جل جلاله الحَميدُ :
اسم الله الحميد ورد في القرآن على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد مفردا ومقترنا باسم الله العزيز والغني والولي والمجيد والحكيم ، ومن ذلك قوله تعالى : ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) [الحج:24] ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) [فاطر:15] ، وقوله : ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) [الشورى:28] ، واقترن بالمجيد في قوله : ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيد ٌ{ [هود:73] واقترن بالحكيم في قوله تعالى : ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) [فصلت:42] .
وعند البخاري عن كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ ؟ قَالَ : قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ )(1) .
الله جل جلاله الحَفيظُ :
ورد في قوله تعالى : ( وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) [سبأ:21]، وفي قوله تعالى عن هود عليه السلام : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) [هود:57] ، وقد تقدم في شروط الإحصاء أن الاسم المقترن بالعلو والفوقية يزيد الإطلاق كمالا على كمال ، فالله من فوق عرشه حفيظ له مطلق الكمال في الوصف ، فإذا انضم إلى ذلك اجتماع معاني العلو ظهر في الإطلاق جمال الكمال ، وقد ورد الاسم مقيدا في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) [الشورى:6] ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وليس بحجة كما تقدم .
الله جل جلاله المَجيدُ :
المجيد اسم من أسماء الله الحسنى ورد في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، قال تعالى : ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) [هود:73] ، وقال : ( ذُو العَرْشِ المَجِيدُ ) [البروج:15] ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم ذو العرش المجيدُ رفعا وهذه القراءة دليل على أن المجيد اسم ، وقرأ حمزة والكسائي ذو العرش المجيدِ خفضا (2) .
وعند البخاري من حديث أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُ رضي الله عنه : ( أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ )(3) .
الله جل جلاله الفَتَّاحُ :
سمى الله نفسه الفتاح على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه في نص واحد من النصوص القرآنية وهو قوله تعالى : ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيم ُ{ [سبأ :26] ، وهذه الآية ورد فيها الاسم والوصف معا ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وليس بحجة .
الله جل جلاله الشَّهيدُ :
ورد الاسم في كثير من النصوص القرآنية مقرونا بالعلو والفوقية كما في قول الله تعالى : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) [سبأ:47] ، وقوله : ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) [فصلت:53] وقد ورد مقيدا في آيات كثيرة كما في قوله : ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) [النساء:166] .
وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مرفوعا : ( .. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ : ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ{ قَالَ : فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ )
الحميد :
الحميد في اللغة صيغة مبالغه على وزن فعيل بمعنى اسم المفعول وهو المحمود ، فعله حمد يحمد حمدا ، والحمد نقيض الذم بمعنى الشكر والثناء وهو المكافأة على العمل والحمد والشكر مُتَقاربان لكن الحمد أعَمُّ من الشكر , لأنّك تحمَد الإنسان على صِفاته الذَّاتِّية وعلى عطائه ولا تَشْكُره على صِفاته (1) .
قال الراغب : ( الحمد أخص من المدح وأعم من الشكر ، فإن المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ، ومما يقال منه وفيه بالتسخير ، فقد يمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه ، والحمد يكون في الثاني دون الأول ، والشكر لا يقال إلا في مقابلة نعمة ، فكل شكر حمد ، وليس كل حمد شكرا ، وكل حمد مدح وليس كل مدح حمدا ، ويقال فلان محمود إذا حمد ، ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة ) (2) .
والتحميد كثرة حمد اللَّه سبحانه بالمحامد الحسنة ، والمحمود المشهور بفعل الخير للغير ، ومنه ما ورد عند النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث جَابِرٍ رضى الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ إِلاَّ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (3) ، ومعنى ابْعَثْه المقَام المحمود الذي وَعَدْتَه أي الذي يَحمْدَه فيه جميع الخلق لتعْجيل الحساب والإراحة من طُول الوقوف (4) .
والحميد سبحانه هو المستحق للحمد والثناء ، حمد نفسه فقال : } الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ { [الفاتحة:2] ، وقال : } الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ { [الأنعام:1] ، وقال : } قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ { [النمل:59] ، فهو سبحانه المحمود على ما خلق وشرع ، ووهب ونزع ، وضر ونفع ، وأعطى ومنع ، وعلا بذاته وشأنه فارتفع وأمسك السماء عن الأرض أن تقع ، وفرش الأرض فانبسط سهلها واتسع ، حمد نفسه وحمده الموحدون فله الحمد كله ، قال ابن قيم الجوزية : ( فصل في إثبات الحمد كله لله رب العالمين .. فإنه المحمود على ما خلقه وأمر به ونهى عنه ، فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم ، وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار والملائكة وعلى خلق الرسل وأعدائهم ، وهو المحمود على عدله في أعدائه كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه ، فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده ، ولهذا سبح بحمده السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) (5).
وروى البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ : ( اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه و سلم حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ .. الحديث ) (6).
وكذلك فإن الله عز وجل هو الحميد الذي يحمده عباده الموحدون لأنهم يعلمون أن الله خلق الدنيا للابتلاء وخلق الآخرة للجزاء ، فهم يحمدونه على السراء والضراء ويوحدونه في العبادة والاستعانة والدعاء ، حتى يكرمهم بجنته عند اللقاء ، فإن ابتلاهم صبروا ، وإن أنعم عليهم شكروا ، ولذلك قال تعالى في وصفهم : } وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ { [الأعراف:43] ، وقال أيضا : } وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ { [فاطر:34] (7) .
قال ابن القيم في نونيته :
وهو الحميد فكل حمد واقع : أو كان مفروضا مدى الأزمان
ملأ الوجود جمعيه ونظيره : من غير ما عد ولا حسبان
هو أهله سبحانه وبحمده : كل المحامد وصف ذي الاحسان (8) .
الحفيظ :
الحفيظ في اللغة صيغة مبالغة من اسم الفاعل الموصوف بالحفظ ، فعله حفِظ يحفَظُ حِفْظا ، وحِفظ الشيء صيانته من التلف والضياع ، ويستعمل الحفظ في العلم على معنى الضبط وعدم النسيان ، أو تعاهُد الشيء وقلَّة الغفلة عنه ، ورجل حافظ وقوم حُفّاظٌ هم الذين رُزِقوا حِفْظَ ما سَمِعوا وقلما يَنْسَوْنَ شيئاً ، والحافِظُ والحَفِيظُ أيضا هو الموكَّل بالشيء يَحْفَظه ، ومنه الحفظة من الملائكة كما في قوله تعالى : } لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ { [الرعد: 11] ، أي تحفظ الأنفس بأمر الله حتى يأتي أجلها ، وكذلك الحفظة الذين يُحْصُونَ الأعمال ويكتبونها على بني آدم ، كما قال تعالى في وصفهم : } وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ { [الانفطار:12] ، ويقال : حَفِظَ المالَ والسِّرَّ حِفْظاً رَعاه وصانه ، واحتفظ الشيءَ لنفسه يعني خَصَّها به ، والتحفُّظ قلَّة الغَفْلة في الأُمور والكلام (9) .
والحفيظ سبحانه هو العليم المهيمن الرقيب على خلقه ، لا يَعْزُب عنه مِثقالُ ذرّة في ملكه ، وهو الحفيظ الذي يحفظ أعمال المكلفين ، والذي شرف بحفظها الكرام الكاتبين ، يدونون على العباد القول والخطرات ، والحركات والسكنات ، ويضعون الأجر كما حدد لهم بالحسنات والسيئات ، وهو الحفيظ الذي يحفظ عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم لتشهد عليهم يوم اللقاء (10)، وهو الحفيظ لمن يشاءُ من الشَّرِّ والأذى والبلاء ، ومنه الدعاء الذي رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث ابن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي ، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ) (11) .
والحفيظ أيضا هو الذي يحفظ أهل التوحيد والإيمان ، ويعصمهم من الهوى وشبهات الشيطان ، ويحول بين المرء وقلبه من الوقوع في العصيان ، ويهيأ الأسباب لتوفيقه إلى الطاعة والإيمان ، ويشهد لمثل هذه المعاني ما ثبت من حديث ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعو : ( اللهم احفظني بالإسلام قائما ، واحفظني بالإسلام قاعدا واحفظني بالإسلام راقدا ، ولا تشمت بي عدوا حاسدا ، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك ، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك ) (12).
والحفيظ أيضا هو الذي حفِظ السماواتِ والأرضَ بقدرته ، قال تعالى : } وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ { [البقرة:255] ، فالله حفيظ لمخلوقاته يبقيها على حالها لغاياتها ، وينظم ترابط العلل بمعلولاتها ، وهو سبحانه يحفظ الأشياء بذواتها وصفاتها ، وقد ذكر أبو حامد الغزالي أن الحفظ في ذلك على وجهين :
الوجه الأول : إدامة وجود الموجودات وإبقاؤها ، ويضاده الإعدام ، والله تعالى هو الحافظ للسماوات والأرض والملائكة والموجودات التي يطول أمد بقائها والتي لا يطول أمد بقائها ، مثل الحيوانات والنبات وغيرهما .
الوجه الثاني : أن الحفظ صيانة المتقابلات المتضادات بعضها عن بعض ، كالتقابل بين الماء والنار ، فإنهما يتعاديان بطباعهما ، فإما أن يطفئ الماء النار ، وإما أن تحيل النار الماء إلى بخار ، وقد جمع الله عز وجل بين هذه المتضادات المتنازعة في سائر العناصر والمركبات ، وسائر الأحياء كالإنسان والنبات والحيوان ، ولولا حفظه تعالى لهذه الأسباب وتنظيم معادلاتها ، وارتباط العلل بمعلولاتها ، لتنافرت وتباعدت وبطل امتزاجها واضمحل تركيبها ، وهذه هي الأسباب التي تحفظ الإنسان من الهلاك وتؤمن له بحفظ الله الحياة (13) .
المجيد :
المجيد في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعيل ، فعله مجد يمجد تمجيدا ، والمجيد هو الكريم الفِعَال ، وقيل : إذا قارن شرف الذات حسن الفعال سُمِّيَ مَجداً ، وفعيل أبلغ من فاعل ، فكأنه يجمع معنى الجليل والوهّاب والكريم ، والمَجْدُ المُرُوءةُ والكرمُ والسخاءُ والشرفُ والفخر والحسب والعزة والرفعة ، والمَجْدُ أيضا الأَخذ من الشرف والسُّؤْدَد ما يكفي ، وأَمجَدَه ومَجَّده كلاهما عظَّمَه وأَثنى عليه ، وتماجَدَ القومُ فيما بينهم ذكَروا مَجْدَهم (14)، والله عز وجل وصف كتابه بالمجيد فقال : } ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ { [قّ:1] ، لأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وصفة الكلام من صفاته العليا فالقرآن كريم فيه الإعجاز والبيان ، وفيه روعة الكلمات والمعان ، وفيه كمال السعادة للإنسان ، فهو كتاب مجيد عظيم رفيع الشأن .
والمجيد سبحانه هو الذي علا وارتفع بذاته وصفاته وأفعاله ، فمجد الذات الإلهية بيِّن في جمال الله وسعته وعلوه واستوائه على عرشه ، وقد ورد عند مسلم من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ) (15)، وعند مسلم أيضا من حديث أَبِي مُوسَى رضى الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( حِجَابُهُ النُّورُ ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) (16) ، وكيفية جمال الذات أو كيفية ما هو عليه أمر لا يدركه سواه ولا يعلمه إلا الله ، وليس عند المخلوقين منه إلا ما أخبر به عن نفسه من كمال وصفه وجلال ذاته وكمال فعله (17)، ومِن مجد ذاته استواؤه على عرشه ؛ فهو العلي بذاته على خلقه ، يعلم السر وأخفى في ملكه ، وهو القائم عليهم والمحيط بهم ، قال تعالى : } الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى { [طه:5] ، وقد ثبت أن العرش أعلى المخلوقات ، وأنه فوق الماء ، وأن الماء فوق السماء ، والله عز وجل فوق ذلك محيط بالخلائق ويعلم ما هم عليه ، روى البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أنِ النَّبِي صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ) (18) .
وقد ذكر الله في كمال مجده اختصاص الكرسي بالذكر دون العرش في أعظم آية في كتابه فقال سبحانه : } وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ { [البقرة:255] ، والكرسي كما فسره السلف الصالح ما يكون تحت قدم الملك عند استوائه على عرشه ، وقد بين الله من كمال وصفه وسعة ملكه لمن أعرض عن طاعته وتوحيده في عبادته ، أن ملك من أشركوا به لو بلغ السماوات السبع والأرضون وما فيهن وما بينهن على عرضهن ومقدارهن وسعة حجمهن لا يمثلن شيئا في الكرسي الذي تحت قدم الملك ، فما بالك بعرشه ومجده ؟ وما بالك باتساع ملكه ؟ وعلى الرغم من ذلك لا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا فهو الذي يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، لأنه لا يقوى غيره على حفظهن وإدارتهن حتى لو ادعى لنفسه ملكهن ، فالله من حلمه على خلقه أمسكهن بقدرته وأبقاهن لحكمته ، ولذلك قال تعالى : } إنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا { [فاطر:41] ، وقد ورد عند ابن حبان وصححه الألباني من حديث أبي ذر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ) (19) ، وصح عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه موقوفا أنه قال : ( الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى ) (20) .
أما مجد أوصافه فله علو الشأن فيها ، لا سمي له ولا نظير ولا شبيه له ولا مثيل فالمجد وصف جامع لكل أنواع العلو التي يتصف بها المعبود فهو العلي العظيم ، لأن أي معبود سواه إذا علا مجده بعض الخلق وغلب على العرش واستقر له الملك فإنه مسلوب العظمة في علوه المحدود ، إما لمرضه أو نومه أو قدوم أجله أو غلبة غيره على ملكه أو غير ذلك من أنواع الضرورة والقيود ، فأي عظمة في علو المخلوق وهو يعلم أن قدرته محدودة وأيامه معدودة ؟ أيستحق المخلوق أن يكون معبودا من دون الله ؟ فما بالنا بمجد رب العزة والجلال الذي له في جميع الأسماء والصفات والأفعال العلو والكمال ، والعظمة والجمال ، له علو الشأن والقهر والفوقية ، وعظمته في علوه عظمة حقيقية ، فهو المجيد حقا وصدقا ، ومجد الظالمين زورا وإفكا .
وأي عاقل يقر بمجد أفعاله وبالغ كرمه وإنعامه وجوده وإحسانه فهو الذي أوجد المخلوقات وحفظها وهداها ورزقها ، فالله عز وجل مجيد في ذاته وصفاته وأفعاله وهو المعبود بحق في السماء والأرض ، قال تعالى : } فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ { [المؤمنون:116] وقال أيضا : } سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُون { [الزخرف:82] .
الفتاح :
الفتاح في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعال من اسم الفاعل الفاتح ، فعله فَتَحَ يَفْتَح فَتْحاً ، والفَتْحُ نقيض الإِغلاق ، قال تعالى : } إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ { [الأعراف:40] ، والمعنى أن أَبواب السماء تغلق أمام أرواحهم فلا تَصْعَدُ أَرواحُهم ولا أَعمالهم بعكس المؤمنين ، والمفتاح كلُّ ما يُتَوَصَّل به إلى استخراج الْمْغلقاَت التي يَتَعذَّر الوُصُول إليها ، وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْكَلِمِ ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ الْبَارِحَةَ إِذْ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ حَتَّى وُضِعَتْ في يَدِي ) (21)، فأخْبر صلى الله عليه و سلم أنه أوتيَ مَفاتِيحَ الكَلِم وهو ما يَسَّر الله له من البَلاغة والفصاحة والوُصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحِكَم ومَحاسِن العِبارات والألفاظ التي أُغْلِقَت على غيره ، ومَن كان في يَده مفَاتيح شيء سَهُلَ عليه الوصول إليه ، والفتَّاحُ في اللغة أيضا هو الحاكِمُ يقال للقاضي الذي يحكم بين الناس فَتَّاحُ لأَنه يَفْتُحُ مواضع الحق (22) .
والفتَّاح سبحانه هو الذي يفتح أبواب الرَّحْمة والرزق لعباده أجمعين أو يفتح أبواب البلاء لامتحان المؤمنين الصادقين ، فمن الأول ما ورد في قوله تعالى : } وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ { [الأعراف :96] ، وقوله : } مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { [فاطر :2] ، قيل معناه ما يأْتيهم به الله من مطر أَو رزق فلا يقدر أَحد أَن يمنعه ، وما يمسك من ذلك فلا يقدر أَحد أَن يرسله ، ومن الفتح بمعنى فتح البلاء والامتحان ما ورد في قوله تعالى : } فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ { [الأنعام:44] (23) .
والفتاح هو الذي يحكم بين العباد فيما هم فيه يختلفون ، ومنه قوله تعالى : } رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ { [الأعراف :89] ، وهو سبحانه الذي يفتح خزائن جوده وكرمه لعباده الطائعين ، ويفتح أبواب البلاء والهلاك على الكافرين المعاندين ، وهو الذي يَفتَحُ على خَلقِهِ ما انغلَقَ عليهم من أمورِهِم فيُيَسّرُها لهم فَضلا منه وكَرَمًا لأن خزائن السماوات والأرض بيده ، يفتح منها ما يشاء بحكمته ، وعلى ما قضاه في خلقه بمشيئته (24) .
قال ابن القيم :
وكذلك الفتاح من أسمائه : والفتح في أوصافه أمران
فتح بحكم وهو شرع إلهنا : والفتح بالأقدار فتح ثان
والرب فتاح بذين كليهما : عدلا وإحسانا من الرحمن (25) .
الشهيد :
الشهيد في اللغة من صيغ المبالغة لاسم الفاعل الشاهد ، فعله شهد يشهد شهودا وشهادة ، والشهود هو الحضور مع الرؤية والمشاهدة ، وعند أبي داود وحسنه الألباني من حديث أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ رضى الله عنه أنه قَالَ : ( صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَوْمًا الصُّبْحَ فَقَالَ : أَشَاهِدٌ فُلاَنٌ ، قَالُوا لاَ ، قَالَ : أَشَاهِدٌ فُلاَنٌ ، قَالُوا لاَ ، قَالَ : إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ ) (26) .
والشهادة هي الإِخْبار بما شاهَدَه ، شَهِدَ فلان على فلان بحق فهو شاهد وشهيد فالشاهد يلزمه أن يُبَيِّنُ ما عَلِمَهُ على الحقيقة ، وعند البخاري من حديث أَبِي بَكْرَةَ رضى الله عنه أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لاَ يَسْكُتُ ) (27) .
والشهادة تأتي بمعنى الحكم كما ورد عند البخاري من حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ قالت عند وفاة عُثْمَان بْن مَظْعُونٍ : ( رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ ؟ فَقَالَ : أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي ، قَالَتْ : فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّى أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا ) (28) .
والشهيد سبحانه هو الرقيب على خلقه أينما كانوا وحيثما كانوا ، حاضر شهيد أقرب إليهم من حبل الوريد ، يسمع ويرى وهو بالمنظر الأعلى وعلى العرش استوى فالقلوب تعرفه والعقول لا تكيفه ، وهو سبحانه فوق عرشه على الحقيقة ، وبالكيفية التي تناسبه ، وشهادته على خلقه شهادة إحاطة شاملة كاملة ، تشمل العلم والرؤية والتدبير والقدرة .
والشهيد أيضا هو الذي شهد لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط ، كما قال سبحانه وتعالى : } شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { [آل عمران:19] ، وشهادة الله لنفسه بالوحدانية تضمنت عند السلف عدة مراتب ، قال ابن أبي العز الحنفي : ( وعبارات السلف في شهد تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار ، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها ، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره ، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه ، فلها أربع مراتب ، فأول مراتبها علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته ، وثانيها تكلمه بذلك وإن لم يعلم به غيره بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها أو يكتبها ، وثالثها أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره به ويبينه له ، ورابعها أن يلزمه بمضمونها ويأمره به ، فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع ، علمه بذلك سبحانه وتكلمه به وإعلامه وإخباره لخلقه به وأمرهم وإلزامهم به ) (30) ، فالله شهيد يشهد بصدق المؤمنين إذا وحدوه ويشهد لرسله وملائكته وفوق كل شهادة شهادته لنفسه بالوحدانية ، وقد تقدم تفصيل ذلك في اسم الله المؤمن بما يغني عن الإعادة
الله جل جلاله المُقَدِّمُ :
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه ، كما جاء في الحديث المتفق عليه عند البخاري والمسلم من حديث ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ : ( اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضِ .. إلى أن قال : فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ) )(1) .
الله جل جلاله المُؤِّخرُ :
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد ورد مع الاسم الذي تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم : ( أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ) ، والذي ورد في القرآن الفعل كما في قوله تعالى : ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) [المنافقون:10] ، لكن الاشتقاق من الفعل مرجعيته إلى النص وليس إلى اجتهاد الشخص ، ولذلك فإن اسم الله المؤخر ثابت لوروده في السنة .
الله جل جلاله المَلِيكُ :
اسم الله المليك ورد في القرآن مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه ، كما جاء في قوله تعالى : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر ) [القمر:55] ، وقد ورد الاسم مقيدا في السنة ، فعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن أبا بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه قال : يَا رَسُولَ الله مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إذَا أَصْبَحْتُ وَإذَا أَمْسَيْتُ قَالَ : ( قُل : اللهُمَّ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشّهَادَةِ ، فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ ، رَبَّ كُلِّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ أشْهَدُ أَن لاَ إِله إِلاّ أنْتَ أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وشِرْكِهِ ، قَالَ قُلهُ إذَا أَصْبَحْتَ وَإذَا أَمْسَيْتَ وإِذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ ) ) .
الله جل جلاله المَقْتَدِرُ :
اسم الله المقتدر سمى الله نفسه به في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ) [القمر:42] ، وقال أيضا : ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) [القمر:55] ، فالاسم في الآيتين ورد مطلقا منونا مرادا به العلمية ودلا على كمال الوصفية ، وورد مقرونا بالعلو والفوقية في قوله تعالى : ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ) [الكهف:45] ، وقد علمنا أن الاقتران بالعلو يزيد الإطلاق كمال على كمال ، ولذلك فإن هذه الآية بمفردها كافية في إثبات اسم الله المقتدر ، ولم يرد الاسم في حديث ثابت ، وإنما ورد في رواية الوليد بن مسلم عند الترمذي وهي رواية ضعيفة ، كما أن سرد الأسماء فيها من إدراج الرواة وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم )
الله جل جلاله المُقَدِّمُ :
الْمُقَدِّمُ في اللغة اسم فاعل ، فعله قدَّمَ يقَدَّم تقديما ، وعند البخاري من حديث ابن عباس رضى الله عنه مرفوعا : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ) (1)، وعنده أيضا من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) (2) ، والقَدَم كلُّ ما قدّمْتَ من خير أو شر ، وتَقَدَّمَتْ لفُلان فيه قَدَمٌ ، أي تَقَدُّم في خير وشرٍّ ، والقَدَمُ والقُدْمةُ السَّبْقَةُ في الأمر ، قال تعالى : } وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ { [يونس:2] ، ومعنى قدم صدق يعني عملاً صالحاً قدّموه ، يقال : لفلان قَدَمُ صِدْقٍ أَي أَثرَةٌ حَسَنة ، ويقول تعالى : } وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ { [الحجر:24] ، قيل معناه لقد علمنا المستقدمين منكم في طاعة أو من يأْتي منكم أَولاً إِلى المسجد ومن يأْتي متأَخراً ، أو من يتقدم من الناس على صاحبه في الموت (3) .
والمقدم سبحانه هو الذي يقدم ويؤخر وفق مشيئته وإرادته ، فالتقديم من أنواع التدبير الذي يتعلق بفعل الله في خلقه ، وهو على نوعين ، كوني وشرعي ، فالتقديم الكوني تقدير الله في خلقه وتكوينه وفعله كما ورد ذلك في قوله : } قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ { [يونس:49] ، وقوله : } قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ { [سبأ:30] ، وأيضا من التدبير الكوني في التقديم ، اصطفاء الحق لمن شاء من خلقه ، وتقديم بعض خلقه على بعضه ، بناء على حكمته في ابتلاء المخلوقات واصطفاء من شاء للرسالات كما قال تعالى : } إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ { [آل عمران:33] ، وقوله عن مريم : } وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ { [آل عمران:42] ، وقوله عن طالوت : } قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ { [البقرة:247] ، فهذا اصطفاء وتقديم يتعلق بالتدبير الكوني .
أما التقديم الشرعي فهو متعلق بمحبة الله لفعل دون فعل ، وتقديم بعض الأحكام على بعض لما تقتضيه المصلحة التي تعود على العباد ، كما في سنن النَسائي وصححه الألباني من حديث الْبَرَاءِ رضى الله عنه أَنَّ نَبِي اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ ، وَالْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ بِمَدِّ صَوْتِهِ ، وَيُصَدِّقُهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ ، وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى مَعَهُ ) (4) ، وفي صحيح مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( لَوْ تَعْلَمُونَ أَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةً ) (5) ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَنَسِ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ ) (6)، ولا عبرة بمن ادعى أنه لا يرغب في التقدم إلى الصف الأول بحجة أن الناس يطلبون فيه الأجر وأن والعبادة الحق هي ما يكون بغير عوض أو مقابل (7) ، وعند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ ) (8) .
فالمُقَدِّم سبحانه هو الذي يُقَدِّم الأشياءَ ويَضَعها في مواضِعها على مقتضى الحكمة والاستحقاق ، فمن اسْتَحقّ التقديمَ قدّمه ومن استحق التأخير أخره ، والله تعالى أيضا هو المقدم الذي قدم الأحباء وعصمهم من معصيته ، وقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم على الأنبياء تشريفا له على غيره ، وقدم أنبياءه وأولياءه على غيرهم ، فاصطفاهم ونصرهم وطهرهم وأكرمهم (9) .
الله جل جلاله المُؤِّخرُ :
المؤخر في اللغة عكس المقدم ، فعله أخّر يؤخر تأخيرا ، تقول مضى قدما وتأخر أخرا والتأخر ضد التقدم ، ومنه ما ورد عند البخاري من حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : ( فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم وَقَالَ : أَخِّرْ عَنِّى يَا عُمَرُ ) (10) ، وعند البخاري من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو رضى الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه و سلم : ( ما سئل عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ ) (11)، وعند البخاري من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَإِذَا زَاغَتْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ ) (12) .
والمؤخْر سبحانه هو الذي يُؤخّر الأشياء فَيَضَعُها في مَواضعها ، إما تأخيرا كونيا كما ورد عند مسلم من حديث ابن مسعود رضى الله عنه قَالَ : ( قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم : اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه و سلم : قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ ) (13) ، وإما تأخيرا شرعيا كما ورد عند مسلم من حديث أَبِي عَطِيَّةَ أنه قَالَ : ( دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلاَنِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و سلم أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلاَةَ ، وَالآخَرُ يُؤَخِّرُ الإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ ، قَالَتْ أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلاَةَ ؟ قَالَ : قُلْنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُود ، قَالَتْ : كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (14)) .
والمؤخر أيضا هو الذي يؤخر العذاب بمقتضى حكمته ابتلاء لعباده لعلهم يتوبوا إليه قال تعالى : } وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ { [النحل:61] ، وقال سبحانه أيضا : } وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ { [إبراهيم:42] ، فالمؤخر هو المنزِلُ للأشياء منازلَها يقدِمُ ما يشاءُ بحكمته ويؤخرُ ما يشاءُ (15)، والفرق بين الآخر والمؤخر أن الآخر دل على صفة من صفات الذات والمؤخر دل على صفة من صفات الفعل .
الله جل جلاله المَلِيكُ :
المليك في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعيل ، فعله ملك يملك مِلكا ومُلكا ، وجمع المليك ملكاء ، والمليك هو المالك العظيم الملك ، ويكون بمعنى الملك (16) ، وهو اسم يدل على العلو المطلق للمَلك في مُلكه ومِلكيته ، فله علو الشأن والقهر في وصف الملكية ، وله علو الشأن والفوقية في وصف الملك والاستواء على العرش ، قال أمية بن أبي الصلت :
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا : ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن : لعزته تعنو الوجوه وتسجد (17) .
والفرق بين المالك والملك والمليك ، أن المالك في اللغة صاحب المِلْك أو من له ملكية الشيء ولا يلزم أن يكون له المُلك ، فقد يؤثر الملك على المالك وملكيته ، فيحجر على ملكيته أو ينازعه فيها أو يسلبها منه ، أما الملك فهو أعم من المالك لأنه غالب قاهر فوق كل مالك ، فالملك من له الملكية والملك معا ، أو هو مالك الملك ، والمليك صيغة مبالغة في إثبات كمال الملكية والملك معا مع دوامها أزلا وأبدا ، قال ابن الجوزي : (المليك هو المالك وبناء فعيل للمبالغة في الوصف ويكون المليك بمعنى الملك ) (18)، وهذا كله وصف رب العزة والجلال ويشمله اسمه المليك.
الله جل جلاله المَقْتَدِرُ :
المقتدر اسم فاعل من اقتدر ، فعله اقتدر يقتدر اقتدارا ، والأصل قدَّر يقدر ، وقدَر يقدر قدرة ، والمقتدر مُفْتَعِلٌ من اقْتَدَرَ ، وهو أبلغ من القادر والقدير (19) ، قال ابن منظور : ( المُقْتَدِر الوسط من كل شيء ، ورجل مُقْتَدِرُ الخَلْق أَي وَسَطُه ، ليس بالطويل والقصير ) (20)، والمقتدر على الشيء هو المتمكن منه بإحاطة تامة وقوة والمهيمن عليه بإحكام كامل وقدرة ، قال البيهقي : ( المقتدر هو التام القدرة الذي لا يمتنع عليه شيء ) (21) ، وقال المناوي : ( المقتدر من الاقتدار وهو الاستيلاء على كل من أعطاه حظا من قدرته .. والمقتدر أبلغ من القادر لما في البناء من معنى التكلف والاكتساب ، فإن ذلك وإن امتنع في حقه تعالى حقيقة لكنه يفيد المعنى مبالغة ) (22) .
والمقتدر سبحانه وتعالى هو الذي يقَدِّر الأشياء بعلمه وينفذها بقدرته ، فالمقتدر يجمع دلالة اسم الله القادر واسمه القدير معا ، فاسم الله القادر هو الذي يقدر المقادير في علمه ، وعلمه المرتبة الأولى من قضائه وقدره ، والله عز وجل قدر كل شيء قبل تصنيعه وتكوينه ، ونظم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، فالقادر يدل على التقدير في المرتبة الأولى ، والقدير يدل على القدرة وتنفيذ المقدر في المرتبة الرابعة من مراتب القدر ، فالقدير هو الذي يخلق وفق سابق التقدير ، والقدر بدايته في التقدير ونهايته في القدرة وتحقيق المقدر ، أما المقتدر فيجمع وسطية الدلالة مع المبالغة ، وهذا ما دل عليه معناه في اللغة ، حيث جمع في دلالته بين اسم الله القادر والقدير معا فهو أبلغ منهما في الدلالة والوصف ، قال تعالى : } وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً { [الكهف:45] ، أي على كل شيء من الأشياء يحييه ويفنيه بقدرته لا يعجز عن شيء (23) ، وقال : } كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ { [القمر:42] ، قال الزركشي : ( واعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه فلا بد أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا لأن الألفاظ أدلة على المعاني فإذا زيدت في الألفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة ومنه قوله تعالى : } فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ { فهو أبلغ من قادر لدلالته على أنه قادر متمكن القدرة لا يرد شيء عن اقتضاء قدرته ويسمى هذا قوة اللفظ لقوة المعنى )
الله جل جلاله المُسَعِّرُ :
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد ورد الاسم في صحيح السنة مطلقا معرفا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، ففي سنن الترمذي وقال حسن صحيح وكذلك عند أبي داود وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني جميعهم يروي عن أَنَسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( قَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ ، وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (1) .
وكذلك أخرجه أحمد برواية فيها تقديم وتأخير ، وفيها قَالَ أَنَس رضي الله عنه : ( غَلاَ السِّعْرُ عَلَي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ سَعَّرْتَ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الخَالِقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ ، وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (2) .
ولا بد هنا من التنبيه على قضية هامة حول هذا الحديث ، فأغلب العلماء الذين تتبعوا الأسماء استدلوا به في إثبات القابض الباسط الرازق واستبعدوا المسعر بلا دليل أو تعليل ، بل بعضهم يستبعد الرازق أيضا ، فهل اسم الله المسعر ليس فيه كمال مطلق ، أو أنه يحتمل معنى من معاني النقص عند الإطلاق فيلزم تقييده ؟
في الحقيقة لم أجد لا هذا ولا ذاك فهو من حيث الإطلاق أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم دون تقييد ، ومن حيث الكمال دلالته أبلغ من القابض الباسط لأنه يشملهما معا لكن العجب أنني وجدت ذلك الأمر قد اجتمع عليه أعلام أجلاء كالإمام البيهقي وابن العربي والأصبهاني وابن منده حتى المعاصرين كابن عثيمين وعبد المحسن العباد جميعهم استبعد المسعر (3) .
أما الرازق فذكره البيهقي وابن منده والأصبهاني وابن الوزير والغصن من المعاصرين ، وإن استبعد ابن الوزير مع المسعر أيضا القابض الباسط مع أنه لا دليل على القابض الباسط الرازق إلا هذا الحديث (4) ، والعلامة ابن حجر العسقلاني استبعد الجميع مع ثبوت الحديث عنده وتصحيحه له ، فهو القائل : ( هذا الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي والبزار وأبو يعلى من طريق حماد بن سلمة عن ثابت وغيره عن أنس وإسناده على شرط مسلم ، وقد صححه ابن حبان والترمذي ) (5) .
والقصد أن الاسم ثابت بالحديث الصحيح وليس لنا أن نرد قول نبينا صلى الله عليه وسلم في تسميته لله بهذا الاسم بناء على اجتهاد أو استحسان ، فلم أجد علة ذكرها أحد لاستبعاده من الأسماء ، فما يسري عليه يسري على بقية الأسماء الواردة في الحديث ولذلك أدخله القرطبي في الأسماء الحسنى (6) .
والمسعر اسم من أسماء الله دل على صفة من صفات الفعل ، والتسعير في حق الله يتعلق بنوعي التدبير ، فالتدبير منه ما هو متعلق بتصريف المقادير وهو التدبير الكوني ومنه ما هو متعلق بالحكم التكليفي وهو التدبير الشرعي ، فالأول هو المقصود عند إطلاق الاسم في حق الله ، لأن ارتفاع السعر أو انخفاضه مرتبط بالتدبير الكوني والتقدير الأزلي ، فالسعر يرتفع بين الناس ؛ إما لقلة الشيء وندرته ؛ وإما لزيادة الطلب وكثرته ، وهذا أمر يتعلق بمشيئة الله وحكمته ، فهو الذي يبتلي عباده في تصريف أرزاقهم وترتيب أسبابهم ، فقد يهيأ أسباب الكسب لإغناء فقير ، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر وهو على كل شيء قدير ، فهذا تدبير الله في خلقه وحكمته في تقدير المقادير .
وإذا ألزمنا الناس في هذه الحالة أن يبيعوا بقيمة محددة مع تيسر الأسباب وبسط الأرزاق ، فهذا ظلم للخلق وإكراه بغير حق واعتراض على الله عز وجل في تقسيم الرزق ، ولذلك قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (7) ، فقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم الحكم علي الوصف المناسب ، فمن حاول التسعير على المعنى السابق فقد عارض الخالق ونازعه في مراده ومنع العباد حقهم مما أولاهم الله في الرخص أو الغلاء ، فبين صلى الله عليه وسلم أن المانع له من التسعير أن يتضمن ظلما للناس في أموالهم لكونه تصرفا فيها بغير إذنهم فقال صلى الله عليه وسلم : ( وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) ، فالنهي عن التسعير مرتبط بوقوع الظلم على العباد ، أما التسعير المتعلق بالتدبير الشرعي فهو منع الظلم وكفه عن الناس وذلك بمنع استغلال حاجتهم أو احتكار التجار لسلعتهم طلبا لزيادة الأسعار ، كأن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع توفرها وضرورة الناس إليها إلا بزيادة عن القيمة المناسبة ، فهنا إلزامهم بقيمة المثل من الأحكام الوجبة ، فالتسعير هاهنا أمر شرعي وإلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به (8) .
الله جل جلاله القَابِضُ :
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه في الحديث الصحيح الذي سبق في اسم الله المسعر : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (9) .
الله جل جلاله البَاسِطُ :
ورد الاسم في السنة في الحديث السابق مع المسعر القابض وقد ورد الاسم مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا علي كمال الوصفية في الحديث الصحيح المرفوع الذي سبق : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ ) .
الله جل جلاله الرَّازِقُ :
ورد الاسم في السنة مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ففي حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الذي ورد في الأسماء الثلاثة السابقة قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ ) ، وكذلك ورد الاسم في القرآن مقيدا في قول الله تعالى : ( قَالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) [المائدة:114] ، والآية لم نعتمد عليها في إثبات الاسم لأنه لم يرد فيها مطلقا وإنما الاعتماد على ما صح في السنة .
الله جل جلاله القَاهِرُ :
اسم الله القاهر سمى الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في موضعين من القرآن ، قوله تعالى : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) [الأنعام:18] ، وقوله : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) [الأنعام:61] ، وقد ورد المعنى في هذين الموضعين محمولا عليه مسندا إليه ، ولم يرد اسم الله القاهر في السنة إلا في حديث سرد الأسماء الحسنى عند ابن ماجة وهو ضعيف
المسعر :
المسعر في اللغة اسم فاعل من التسعير ، فعله سعر يسعر تسعيرا وتسعيرة ، يقال : أسْعَر أهلُ السوق وسَعَّرُوا إذا اتفّقوا علي سِعْر ، وهو من سَعَّر النار إذا رفعها ، لأن السِّعْر يوصف بالارتفاع ، وسَعَرت النارَ إذا أوقَدتَهما وسعَّرتها بالتشديد للمبالغة واسْتَعَرَتْ وتَسَعَّرَتْ اشتعلت واستوقدت ، ونار سَعِيرٌ يعني مستعرة ومرتفعة ، والسعير النار والسعار حر النار ، ومنه قوله تعالي : } كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً { [الإسراء:97] ، وكذلك قوله تعالي : } وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ { [التكوير:12] ، وناقة مسعورة كأَن بها جنوناً من سرعتها وكلب مسعور من شدة نهشه وعضه في الناس أو مسعور بمعنى جوعان متلهف للطعام والالتهام .
والمسعر سبحانه هو الذي يزيد الشيء ويرفع من قيمته أو مكانته أو تأثيره في الخلائق ، فيقبض ويبسط وفق مشيئته وحكمته ، والتسعير وصف كمال في حقه وهو من صفات فعله وحكمه وأمره ولا اعتراض لأَحد من خلقه عليه ، فهو الذي يرخص الأشياء ويغليها وفق تديره الكوني أو ما أمر به العباد في تدبيره الشرعي ، قال المناوي : ( المسعر هو الذي يرفع سعر الأقوات ويضعها ، فليس ذلك إلا إليه ، وما تولاه الله بنفسه ولم يكله إلى عباده لا دخل لهم فيه ) (1).
القابض :
والقابض في اللغة اسم فاعل ، فعله قَبَضَه يَقْبِضُه قَبْضاً وقَبضة ، والقَبْضُ خِلافُ البَسْط وهو في حقنا جَمْعُ الكفّ على الشيء وهو من أوصاف اليد وفعلها ، والقَبْضة ما أَخذت بِجُمْعِ كفِّك كله تقول : هذا قُبْضةُ كفِّي أَي قدر ما تَقْبضُ عليه ، قال تعالى عن السامري : } فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي { [طه:96] أَراد من تراب أَثَر حافِر فرَس الرسول (2)، وعند مسلم من حديث إِيَاس بْن سَلَمَةَ عن أبيه أنه قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم حُنَيْنًا .. إلى أن قال : ( فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الأَرْضِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ فَقَالَ : شَاهَتِ الْوُجُوهُ ، فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلاَّ مَلأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ) (3) .
والقبض قد يأتي بمعنى تأخير اليد وعدم مدها أو على المعنى المعاكس وهو تناولك للشيءِ بيدك مُلامَسةً كما ورد عند النسائي وحسنه الألباني من حديث عَائشَةَ رضي الله عنها أَنَّ امْرَأَةً مَدَّتْ يَدَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم بِكِتَابٍ فَقَبَضَ يَدَهُ فَقَالَتْ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ مَدَدْتُ يَدِي إِلَيْكَ بِكِتَابٍ فَلَمْ تَأْخُذْهُ ، فَقَالَ : إِنِّي لَمْ أَدْرِ أَيَدُ امْرَأَةٍ هِيَ أَوْ رَجُلٍ قَالَتْ : بَلْ يَدُ امْرَأَةٍ ، قَالَ : لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بِالْحِنَّاءِ ) (4) .
وقَبَضْتُ الشيءَ قبْضاً يعني أَخذته ، والقَبْضُ قَبُولُكَ المَتاعَ وإِن لم تُحَوِّلُه من مكانه والقبض أيضا تَحْوِيلُكَ المَتاعَ إِلى حَيِّزِك وصار الشيءُ في قَبْضِتي أَي في مِلْكِي ، وقبِضَ المريضُ إِذا تُوفِّيَ أو أَشرف على الموت وعند البخاري من حديث أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضى الله عنه قَالَ : ( أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِي صلى الله عليه و سلم إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لي قُبِضَ فَائْتِنَا ) (5) ، أَرادت أَنه في حال القَبْضِ ومُعالجة النَّزْع ، وتَقَبَّضت الجلدةُ في النار أَي انْزَوَتْ ، وقال تعالى في وصف المنافقين : } وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ { [التوبة:67] ، أَي عن النفقة والصدقة فلا يُؤْتون الزكاة (6).
والقابِضُ سبحانه هو الذي يُمْسِكُ الرزق وغيره من الأشياء عن العِبادِ بِلُطْفِه وحِكمته ، ويَقْبِضُ الأَرْواحَ عند المَمات بأمره وقدرته ، ويُضَيِّقُ الأسباب على قوم ويُوَسِّع على آخرين (7) .
وقبضه تعالى وإمساكه وصف حقيقي لا نعلم كيفيته ، نؤمن به علي ظاهره وحقيقته ، لا نمثل ولا نكيف ولا نعطل ولا نحرف ، فالإيمان بصفات الله فرع عن الإيمان بذاته والقول في صفاته كالقول في ذاته لأننا ما رأينا الله تعالى وما رأينا لذاته مثيلا ، فهو أعلم بكيفية قبضه وبسطه أو إمساكه وأخذه ، ولا داعي للتأويل الذي انتهجه المتكلمون بكل سبيل ، فنؤمن بما أخبر الله بلا تمثيل ولا تعطيل ، وعلى هذا اعتقاد السلف في جميع الصفات والأفعال ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وقد تواتر في السنة مجيء اليد في حديث النبي صلى الله عليه و سلم ، فالمفهوم من هذا الكلام أن لله تعالى يدين مختصتان به ذاتيتان له كما يليق بجلاله ، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس ، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوى السموات بيده اليمنى وأن يداه مبسوطتان ) (8) ، قال تعالى : } وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ { [الزمر:67] ورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَبُي مُوسَى رضى الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ جَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) (9) .
الباسط :
الباسط اسم فاعل فعله بسَط يبسُط بَسطاً فانبَسَطَ ، والبَسْطُ نقيض القَبْضِ وأَرض مُنْبَسطة مستويَة وانبسَط الشيءُ على الأَرض امتد عليها واتسع ، وتبَسَّط في البلاد أَي سار فيها طولاً وعَرْضاً ، وبَسِيطُ الوجهِ يعني مُتَهَلِّلٌ ، والبَسِيطُ هو الرجل المُنبَسِط اللسان وبسط فلان يده بما يحب ويكره ، وبسَط إِليَّ يده بما أُحِبّ وأَكره ، بسطُها يعني مَدُّها قال تعالى : } لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ { [المائدة:28] ، فبسط اليد في الأصل مدها ، وبسط الكف يستعمل على أنواع ، تارة للطلب نحو قول الله تعالى : } لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ { [الرعد:14] ، وتارة للأخذ نحو قوله : } وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ { [الأنعام:93] ، وتارة للصولة والضرب كما قال تعالى : } إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ { [الممتحنة:2] ، وتارة للبذل والعطاء نحو قوله : } بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ { [المائدة:64] (10) ، وبسط اليد في حقنا معلوم المعنى والكيفية أما في حق الله فمعلوم المعنى مجهول الكيفية .
الباسِطُ سبحانه هو الذي يَبْسُطُ الرزق لعباده بجُوده ورحمته ، ويوسّعه عليهم ببالغ كرمه وحكمته ، فيبتليهم بذلك على ما تقتضيه مشيئته ، فإن شاء وسع وإن شاء قتر فهو الباسط القابض ، فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة لا لشيء آخر فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى كما قال سبحانه وتعالى : } لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { [الشورى:12] ، وقال : } وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ { [الشورى:27] (11).
والباسط سبحانه أيضا هو الذي يبسط يده لعباده ليتوب إليه من أساء ، وهو الذي يملي لهم لعلهم يقلبون بين الخوف والرجاء ، روى مسلم من حديث أبي موسى رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا )(12) .
وبعض أهل العلم أوجب عدم إطلاق الباسط إلا مقارنا للقابض وألا يفصل بينهما لأن كمال القدرة لا يتحقق إلا بهما معا (13)، وهذا الكلام فيه نظر لأن أسماء الله كلها حسنى وكلها تدل على الكمال وكل واحد منها يفيد المدح والثناء على الله بنفسه ، كما أن الأسماء الحسنى لا تخلو من التقييد العقلي بالممكنات (14) ، فالقبض مقيد بما يشاء الله قبضه والبسط كذلك ، ولذلك إذا صرح النص بالتقييد ذكر الوصف فيه مفردا كما في قوله تعالى : } أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً { [الفرقان:46] ، فالقبض في الآية مقيد بالظل ، وإطلاق القابض أيضا مقيد بالممكنات وهكذا في سائر الأسماء ودلالتها على المفعولات ، وقال في البسط : } وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ { [الشورى:27] ، فالبسط مقيد في الآية بالرزق ، فاسما الله القابض والباسط كل منهما يفيد المدح والثناء بنفسه ، وإن ذكرا مقترنين زادت دلالة الكمال في وصف رب العزة والجلال كما هو الحال عند اقتران الحي مع القيوم والرحمن مع الرحيم والغني مع الكريم والقريب مع المجيب وغير ذلك من أسماء الله ، فالقول بوجوب ذكر الاسمين معا فيه نظر وإن كان مستحسنا .
الرازق :
الرازق في اللغة اسم فاعل ، فعله رَزَقَ يرزُق رَزْقاً ورِزْقاً ، والرِّزْقُ هو ما يُنْتَفعُ به وجمعه أَرْزاق ، والرَّزق هو العَطَاء ، واسْتَرْزَقَه يعني طلب منه الرِّزق ، وقد يسمى المطر رزقاً لأَن الرِّزْق يكون على أثره ، ومعنى قول الله تعالى : } وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ { [الواقعة:82] أَي شُكرَ رزقكم مثل قولهم مُطِرنا بنَوْءِ الثُّريا أو بنوء كذا وكذا ، والأَرزاقُ نوعان : ظاهرة كالأَقْوات للأَبدان ، وباطنة كالمَعارف والإيمان للقلوب والنُّفوس (15) .
والرازِقُ سبحانه هو الذي يرزق الخلائق أَجمعين ، وهو الذي قدر أرزاقهم قبل خلق العالمين ، وهو الذي تكفل باستكمالها ولو بعد حين ، فلن تموت نفس إلا باستكمال رزقها كما أخبرنا الصادق الأمين ، روى ابن ماجة وصححه الألباني من حديث جَابِرِ رضى الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِىَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ ) (16)، ومن حديث أبي أمامة رضى الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله ، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته ) (17) ، وقال تعالى : } يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُون َ{ [فاطر:3] ، فالرازق اسم يدل على وصف الرزق المقارن للخلق في التقدير الأزلي والميثاقي ، فالله سبحانه قدر خلقهم ورزقهم معا قبل وجودهم ، وكتب أرزاقهم في الدنيا والآخرة قبل إنشائهم ، فالرزق وصف عام يتعلق بعموم الكون في عالم الملك والملكوت ، قال ابن تيمية : ( والرزق اسم لكل ما يغتذى به الإنسان وذلك يعم رزق الدنيا ورزق الآخرة .. فلابد لكل مخلوق من الرزق قال الله تعالى : } وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا { [هود:6] ، حتى إن ما يتناوله العبد من الحرام هو داخل في هذا الرزق فالكفار قد يرزقون بأسباب محرمة ويرزقون رزقا حسنا ، وقد لا يرزقون إلا بتكلف وأهل التقوى يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون ، ولا يكون رزقهم بأسباب محرمة ولا يكون خبيثا ، والتقى لا يحرم ما يحتاج إليه من الرزق ، وإنما يحمى من فضول الدنيا رحمة به وإحسانا إليه ، فإن توسيع الرزق قد يكون مضرة على صاحبه وتقديره يكون رحمة لصاحبه ) (18) .
الله جل جلاله القَاهِرُ :
القاهر في اللغة اسم الفاعل للموصوف بقهر غيره ، فعله قهر يقهر قهرا فهو قاهر ، وقهرت الشيء غلبته وعلوت عليه مع إذلاله بالاضطرار ، وتقول : أَخَذْتُهُم قَهْرا أَي من غير رضاهم ، وأُقْهِرُ الرجُل إذا وجَدْتَه مَقْهورا أو صار أمرُه إلى الذل والصغار والقهر ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ عن يأجوج ومأجوج : ( فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا مَنْ فِي الأَرْضِ وَعَلَوْنَا مَنْ فِي السَّمَاءِ قَسْوَةً وَعُلُوًّا ) (19) ، وروى أحمد وصححه الألباني من حديث أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضى الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( وَلَمْ يَعْمَلْ يَوْمَئِذٍ عَمَلاً يَقْهَرُهُنَّ ) (20) .
والقاهر سبحانه هو الغالِب على جميع الخلائق على المعنى العام ، الذي يعلو في قهره وقوته فلا غالب ولا منازع له سبحانه بل كل شيء تحت قهره وسلطانه ، قال تعالى : } مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون َ{ [المؤمنون:91] ، فيستحيل أن يكون لهذا العالم إلا إله واحد لأن الله قاهر فوق عباده له العلو والغلبة ، وقد تحدثنا عن اسم الله المتعال وبينا أنه لو فرضنا وجود إلهين اثنين مختلفين ومتضادين ، وأراد أحدهما شيئا خالفه الآخر فلا بد عند التنازع من غالب وخاسر ، فالذي لا تنفذ إرادته هو المغلوب العاجز والذي نفذت إرادته هو القاهر القادر قال تعالى : } وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ { [الأنعام:61] ، أي هو الذي قهر كل شيء ، وخضع لجلاله كل شيء ، وذل لعظمته وكبريائه كل شيء ، وعلا علي عرشه فوق كل شيء ، قال ابن جرير الطبري : ( ويعني بقوله القاهر أي المذلل المستعبد خلقه العالي عليهم ، وإنما قال فوق عباده لأنه وصف نفسه تعالى بقهره إياهم ، ومن صفة كل قاهر شيئا أن يكون مستعليا عليه ، فمعنى الكلام إذا والله الغالب عباده المذل لهم العالي عليهم بتذليله لهم وخلقه إياهم ، فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه )
الله جل جلاله الديَّانُ :
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، فعند البخاري من حديث جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ ، أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ ) (1) ، وعند أحمد وقال الألباني حسن لغيره عن عَبْدِ اللَّهِ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ قَالَ الْعِبَادُ عُرَاةً غُرْلاً بُهْماً قَالَ قُلْنَا : َمَا بُهْماً ؟ قَالَ : لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ ) (2) .
الله جل جلاله الشَّاكِرُ :
ورد الاسم في القرآن مطلقا منونا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في موضعين من النصوص القرآنية ، في قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَو اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) [البقرة:158] ، وقوله : ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ) [النساء:147] ، ولم يثبت الاسم في السنة .
الله جل جلاله المَنَانُ :
اسم الله المنان لم يرد في القرآن ولكن ورد في السنة مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في سنن أبي داود وصححه الألباني من حديث أَنَسِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلّي ثُمَّ دَعَا : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) (3) ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَنَسٍ : ( فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم : تَدْرُونَ بِمَ دَعَا اللَّهَ ؟ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِي بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَي ) ، وكذلك ورد الحديث عند النسائي وابن ماجة ، أما عن اقتران المنان بالحنان في بعض الروايات فلم نحتج بها لأنها ضعيفة ، ولذلك ثبت اسم الله المنان ولم يثبت الحنان (4) .
الله جل جلاله القَادِرُ :
سمى الله نفسه القادر في القرآن وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق والإضافة مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، فمن القرآن قوله تعالى : ( فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ ) [المرسلات:23] حيث ورد الاسم معرفا مطلقا على وجه المدح والكمال والتعظيم ، ومما ورد مضافا قوله تعالى : ( قُل هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ) [الأنعام:65] ، وعند أحمد وصححه الألباني من حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قِيلَ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ ؟ قَالَ : إِنَّ الذي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) (5) ، وعند مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه : ( فَقَالُوا : مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّى وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ ، وَلَكِنِّى عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ ) (6) .
الله جل جلاله الخَلاَّقُ :
ورد الاسم مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم ُ{ [الحجر:86] ، وقوله تعالى : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ) [يّس:81] ، وفي مستدرك الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته فقال : يا محمد أيبعث الله هذا بعد ما أرم ؟ قال : نعم يبعث الله هذا يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم ، قال فنزلت : ( أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ .. إلى قوله : أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ... الآيات )
الله جل جلاله الديَّانُ :
الديان صيغة مبالغة على وزن فعال فعله دَانَ يدين دِينا ، يقال : دنتهم فدانوا أي جازيتهم وحاسبتهم وقهرتهم فأطاعوا ، والديان يطلق على الملك المطاع والحاكم والقاضي ، وهو الذي يدين الناس إما بمعنى يقهرهم وإما بمعنى يحاسبهم ، فمن الأول دان الرجل القوم إذا قهرهم فدانوا له إذا انقادوا ، ومن الثاني الديان بمعني المحاسب المجازي ، قال خويلد بن نوفل الكلابي للحارث الغساني وكان ملكا ظالما :
يا أيها الملك المخوف أما ترى : ليلا وصبحا كيف يختلفان
هل تستطيع الشمس أن تأتي بها : ليلا وهل لك بالمليك يدان
يا حار أيقن أن ملكك زائل : واعلم بأن كما تدين تدان (1) .
والدين الجزاء ، والله عز وجل مالك يوم الدين أي يوم الجزاء ، وقوله تعالى عن الكافرين : } أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ { [الصافات:53] أي مجزيون محاسبون وقوله : } فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ { [الواقعة:86/87] ، أي مقهورين ومدبرين ومجزيين (2) .
وقد يكون الديان بمعني صاحب الديوان وهو الكتاب الحافظ للأعمال والحقوق ومنه ما رواه أحمد والحاكم من حديث عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قال : ( الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلاَثَةٌ : دِيوَانٌ لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئاً ، وَدِيوَانٌ لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً ، وَدِيوَانٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ ) (3) .
والديان سبحانه هو الذي دانت له الخليفة وعنت له الوجوه وذلت لعظمته الجبابرة وخضع لعزته كل عزيز ، ملك قاهر على عرش السماء مهيمن ، لعزته تعنو الوجوه وتسجد ، يرضى على من يستحق الرضا ويثيبه ويكرمه ويدنيه ، ويغضب على من يستحق الغضب ويعاقبه ويهينه ويقصيه ، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء ، ويعطى من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ويقرب من يشاء ويقصى من يشاء ، له دار عذاب وهي النار ، وله دار سعادة عظيمة وهي الجنة ، فهو الديان الذي يدين العباد أجمعين ويفصل بينهم يوم الدين (4)، كتب أعمالهم فهي حاضرة ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أظهرها لهم في الآخرة ، قال تعالى : } وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً { [الكهف:49] ، وقال سبحانه : } يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ { [النور:25] ، قال ابن القيم : ( والله سبحانه وتعالي سمي يوم القيامة يوم الدين كما قال مالك يوم الدين وهو كما روى عن ابن عباس وغيره من السلف يوم يدين الله العباد بأعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا ، وذلك يتضمن جزاءهم وحسابهم ) (5) .
الله جل جلاله الشَّاكِرُ :
الشاكر اسم فاعل للموصوف بالشكر ، فعله شكر يشكر شكرا ، والشكر هو الثناء الجميل على الفعل الجليل ، ومجازاة الإحسان بالإحسان ، روى أحمد وصححه الألباني من حديث صحيح أَبِى سَعِيدٍ رضى الله عنه : ( أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : رأيت فلانا يشكر ، يذكر أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ دِينَارَيْنِ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لكن فلانا قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْمِائَةِ فما شكر ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا وَمَا هي لَهُمْ إِلاَّ نَارٌ ، قَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ ؟ قَالَ : إِنَّهُم يَأْبَوْن إِلاَّ أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِيَ الْبُخْلَ ) (6) ، والشكور أبلغ من الشاكر وهو المبالغ في الشكر بالقلب واللسان والجوارح ، قال المناوي : ( الشكور الباذل وسعه في أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه اعتقادا واعترافا ، وقيل الشاكر من يشكر على الرخاء والشكور على البلاء ، والشاكر من يشكر على العطاء والشكور من يشكر على المنع ) (7) .
والله سبحانه شاكر يجازي العباد على أعمالهم ويزيد لهم أجورهم ، فيقابل شكرهم بزيادة النعم في الدنيا وواسع الأجر في الآخرة ، قال تعالى : } فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُون ِ{ [البقرة:152] ، وقال : } وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ { [إبراهيم:7] ، وروى البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلاَّ أُرِىَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ، لَوْ أَسَاءَ ، لِيَزْدَادَ شُكْرًا ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلاَّ أُرِىَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، لَوْ أَحْسَنَ ، لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً ) (8) .
والله سبحانه شاكر يرضى بأعمال العباد وإن قلت تكريما لهم ودعوة للمزيد ، مع أنه سبحانه قد بين لهم ما لهم من وعد أو وعيد ، لكنه شاكر يتفضل بمضاعفة الأجر ويقبل التوبة ويمحو ما يشاء من الوزر ، والله غني عنا وعن شكرنا لا يفتقر إلى طاعتنا أو شيء من أعمالنا لكنه يمدح من أطاعه ويثني عليه ويثيبه ، قال تعالى : } مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً { [النساء:147] .
قال البيضاوي في تفسير هذه الآية : ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم أيتشفى به غيظا أو يدفع به ضررا أو يستجلب به نفعا وهو الغني المتعالي عن النفع والضر وإنما يعاقب المصر بكفره .. وكان الله شاكرا مثيبا يقبل اليسير ويعطي الجزيل عليما بحق شكركم وإيمانكم ) (9) .
الله جل جلاله المَنَانُ :
المنان في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعال ، فعله مَنَّ يَمُنُّ مَنًّا ، يعني قطعه وذهب به ، والمَنِينُ الحبل الضعيف ، وحَبل مَنينٌ مَنينٌ إِذا أَخْلَقَ وتقطع ، ورجل مَنِينٌ أَي ضعيف ، يقال : كأَنَّ الدهر مَنَّه وذهب بمُنَّته أَي بقوته ، والمَنُونُ الموت لأَنه يَمُنُّ كلَّ شيء فيضعفه وينقصه ويقطعه ، وعليه جاء قوله تعالى : } أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ{ [الطور:30] ، ومَنَّ عليه أَحسن وأنعم عليه ، وقوله عز وجل : } وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ { [القلم:3] أي غير محسوب أو غير مقطوع أو غير منقوص (10).
قال الراغب الأصفهاني : ( المنة النعمة الثقيلة ، ويقال ذلك على وجهين : أحدهما أن يكون ذلك بالفعل ، فيقال : منَّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة ، وعلى ذلك قوله : } لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ { [آل عمران:164] ، .. وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى ، والثاني : أن يكون ذلك بالقول ، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة ، ولقبح ذلك قيل : المنة تهدم الصنيعة ، ولحسن ذكرها عند الكفران قيل : إذا كفرت النعمة حسنت المنة ، وقوله : } يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ { [الحجرات:17] ، فالمنة منهم بالقول ، ومنة الله عليهم بالفعل وهو هدايته إياهم كما ذكر ) (11) .
والمنان سبحانه هو العظيم الهبات الوافر العطايا ، الذي يُنْعِمُ غيرَ فاخِرٍ بالإِنعام والذي يبدأ بالنوال قبل السؤال ، وهو المُعْطي ابتداء وانتهاء ، قال تعالى : } وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ{ [النحل:18] ، فللَّه المِنَّة على عباده ولا مِنَّة لأَحد عليه ، فهو المحسن إلي العبد والمنعم عليه ، ولا يطلب الجزاء في إحسانه إليه بل أوجب بفضله لعباده حقا عليه ، منة منه وتكرما إن هم وحدوه في العبادة ولم يشركوا به شيئا (12) ، روى البخاري من حديث مُعَاذٍ بن جبل رضى الله عنه قَالَ : كُنْتُ رِدْفَ النَّبِي صلى الله عليه و سلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ ، فَقَالَ : ( يَا مُعَاذُ ، هَلْ تَدْرِى حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ ؟ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ ؟ قَالَ : لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا ) (13).
الله جل جلاله القَادِرُ :
القادر في اللغة اسم فاعل من قَدَر يَقْدِر فهو قادر ، يقال قَدَرْت الأمْر أقْدُرُه وأقدِّرُه إذا نَظَرتَ فيه ودَبَّرتَه ، وقدْرُ كل شيء ومِقْدارُه مِقْياسه ، وقَدَرَ الشيءُ بالشيء وقَدَّرَه قاسَه ، والتقدير على وجوه من المعاني ، أَحدها : التروية والتفكير في تسوية أَمر وتهيئته ، والثاني : تقديره بعلامات يقطعه عليها ، والثالث : أَن تَنْوِيَ أَمراً بِعَقْدِك تقول قَدَّرْتُ أَمر كذا وكذا أَي نويتُه وعَقَدْتُ عليه ، ويقال قَدَرْتُ لأَمْرِ كذا أَقْدِرُ له إِذا نظرت فيه ودَبَّرْتَه وقايسته (14) .
والقادر سبحانه وتعالى هو الذي يقدر المقادير في علمه ، وعلمه المرتبة الأولى من قضائه وقدره ، فالله عز وجل قدر كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، ونظم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ثم كتب في اللوح هذه المعلومات ودونها بالقلم في كلمات ، وكل مخلوق مهما عظم شأنه أو قل حجمه كتب الله ما يخصه في اللوح المحفوظ ، ثم يشاء بحكمته أن يكون الأمر على تقديره بقدرته ، ولذلك فإن القدر عند السلف مبنى على التقدير والقدرة ، فبدايته في التقدير وهو علم حساب المقادير ، أو العلم الجامع التام لحساب النظام العام الذي يسير عليه الكون من بدايته إلى نهايته ، قال تعالى : } وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ { [الحجر:21] ، وقال أيضا : } وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً { [الأحزاب:38] ، وقال سبحانه : } إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً { [الطلاق:3] ، وعند مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو رضى الله عنه أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه و سلم قَال : ( كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ ) (15)، وفي رواية الترمذي : ( قَدَّرَ اللهُ المَقَادِيرَ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ) (16) ، فالقادر هو الذي قدر المقادير قبل الخلق والتصوير ، والقادر دلالته تتوجه في الأغلب إلى المرتبة الأولي من مراتب القدر ، وهي العلم والتقدير وإمكانية تحقيق المقدر ولذلك قال تعالى : } أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ { [يس:81] ، وقال سبحانه أيضا : } فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ { [المعارج:40/41] ، فالآيات تتعلق بإمكانية تحقيق المقدر ، وقال : } وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ { [المؤمنون:95] .
الله جل جلاله الخَلاَّقُ :
الخلاق صيغة مبالغة على وزن فعال من اسم الفاعل الخالق ، فعله خلق يخلق خلقا والفرق بين الخالق والخلاق أن الخالق هو الذي ينشئ الشيء من العدم بتقدير وعلم ثم بتصنيع وخلق عن قدرة وغنى ، أما الخلاق فهو الذي يبدع في خلقه كما وكيفا فمن حيث الكم يخلق ما يشاء كما قال : } إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً { [النساء:133] ، وقال : } وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ { [الأنعام:133] وأما من حيث الكيف فكما قال تعالى : } وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون َ{ [النمل:88] ، وقال : } خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ { [التغابن:3] ، وقال : } وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُون َ{ [النحل:8] ، فالخلاق هو الذي يبدع في خلقه كما وكيفا بقدرته المطلقة ، فيعيد ما خلق ويكرره كما كان ، بل يخلق خلقا جديدا أحسن مما كان (17) ، وفي هذا رد على الذين قالوا ليس في الإمكان أبدع مما كان ، لأن ذلك ينافي معنى اسمه الخلاق ، صحيح أن الله أحسن وأتقن كل شيء خلقه كما قال : } الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ { [السجدة:7] لكن الله قدرته مطلقة فهو الخالق الخلاق كما أنه الرازق الرزاق .
قال شيخ الإسلام فيمن قال ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأنه لو كان كذلك ولم يخلقه لكان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة : ( لا ريب أن الله سبحانه يقدر على غير هذا العالم وعلى إبداع غيره إلى ما لا يتناهى كثرة ويقدر على غير ما فعله كما بين ذلك في غير موضع من القرآن ، وقد يراد به – قول القائل ليس في الإمكان - أنه ما يمكن أحسن منه ولا أكمل منه فهذا ليس قدحا في القدرة ، بل قد أثبت قدرته على غير ما فعله ، لكن قال ما فعله أحسن وأكمل مما لم يفعله ، وهذا وصف له سبحانه بالكرم والجود والإحسان ، وهو سبحانه الأكرم فلا يتصور أكرم منه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ) (18) .
ويذكر ابن القيم أن براهين المعاد في القرآن مبينة على ثلاثة أصول :
أحدها : تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال : } مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ { ، وقال : } وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم ُ{ [الحجر:86] .
والثاني : تقرير كمال قدرته كقوله : } أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ { .
الثالث : كمال حكمته كما في قوله تعالى : } وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ { [الدخان:38] ، وقوله سبحانه : } أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ { [المؤمنون:115] (19) .
قال ابن كثير : ( وقوله إن ربك هو الخلاق العليم تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض ) (20) .
والقرطبي يجعل الخلاق دالا أيضا تقدير الله للأخلاق وتقسيمها بين العباد وهذا يسعه اللفظ ويحتمله ، يقول القرطبي : ( إن ربك هو الخلاق أي المقدر للخلق والأخلاق ، العليم بأهل الوفاق والنفاق )
الله جل جلاله المَالِكُ :
اسم الله المالك ورد في القرآن على سبيل الإضافة والتقييد مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وإن كانت الإضافة تحمل معنى الإطلاق في الملكية ، لكنه ورد في السنة النبوية مطلقا ، فمن القرآن ما جاء في قوله تعالى : ( قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ ) [آل عمران:26] .
والملك يطلق في مقابل الملكوت ، فالملك يراد به عالم الشهادة غالبا أو الحياة الدنيا بصفة عامة والملكوت أيضا يراد به في الغالب عالم الغيب أو عالم الآخرة ، والله عز وجل هو مالك الملك والملكوت رب العالمين ، الذي يملك عالم الغيب وعالم الشهادة بما فيهما ، قال تعالى : ( قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) [الأعراف:158] ، فالمالك هو المنفرد بملكية الملك والملكوت والله عز وجل كما أفرد نفسه بملكيته لعالم الملك أفرد نفسه بملكيته لعالم الغيب أو عالم الملكوت ، فقال تعالى : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) [الفاتحة:2/4] (1) .
وإذا كان الحق سبحانه مالكا لعالم الغيب والشهادة وما فيهما كما بينت الأدلة السابقة فهو المالك إذا على سبيل الإطلاق أزلا وأبدا ، وعلى الرغم من ذلك فإن أدلة الاسم في القرآن لا تكفي وحدها لحصره أو عده ضمن الأسماء نظرا لعدم الإطلاق الصريح ، والشرط الذي نلتزمه في حصر الأسماء الحسنى أن يفيد الثناء بنفسه من غير إضافة ، وأن يرد نص صريح صحيح في ذلك ، فالذي ورد في القرآن يعد وصفا أكثر من كونه اسما ، لكن الذي يجعله اسما ووصفا هو ما سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عند الإمام مسلم من رواية أَبُي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ أَخْنَع اسْمٍ عِنْدَ اللّهِ رَجُلٌ تَسَمَّىٰ مَلِكَ الأَمْلاَكِ ، لاَ مَالِكَ إِلاَّ اللّهُ عَزَّ وَجَل ) (2) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم سماه مالكا على سبيل الإطلاق الصريح مرادا به العلمية ودالا على الوصفية .
الله جل جلاله الرَّزَّاقُ :
سمى الله نفسه الرزاق مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما ورد في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [الذاريات:58] ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (3) ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (4) .
الله جل جلاله الوَكيلُ :
ورد اسم الله الوكيل في قوله تعالى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [آل عمران:173] ، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي ورد فيه الاسم مطلقا معرفا بالألف واللام ، لكن ورد في مواضع أخرى مقرونا بمعاني العلو ، والعلو كما تقدم يزيد الإطلاق كمالا على كمال كما ورد في قوله تعالى : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) [الأنعام:102] ، وعند البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [آل عمران:173] ، وفي سنن الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ : قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) (5) .
الله جل جلاله الرَّقيبُ :
ورد الاسم مطلقا منونا مقرونا بمعاني العلو والفوقية في قوله تعالى : ( وَكَانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً ) [الأحزاب:52] ، كما ورد مقيدا في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام : ( فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) [المائدة:117] ، وقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيباً ) [النساء:1] ، وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَال : ( قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ .. إلى أن قال : فَأَقُولُ كَمَا قَال العَبْدُ الصَّالِحُ : ( وَكُنْتُ عَليْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ) قَال : فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ )
الله جل جلاله المَالِكُ :
المالك في اللغة اسم فاعل فعله ملك يملك فهو مالك ، والله عز وجل مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته لا يمتنع عليه منها شيء ، لأن المالك للشيء في كلام العرب هو المتصرف فيه والقادر عليه ، فإن قال قائل : فقد يغصب الإنسان على الشيء فلا يزول ملكه عنه ، قيل له : لا يزول ملكه عنه حكما وديانة ، فأما في الظاهر والاستعمال فالغاصب له ما هو في يده يصرفه كيف شاء ؛ من استعمال أو هبة أو إهلاك أو إصلاح ، وإن كان في ذلك مخطئا آثما آتيا ما هو محظور عليه بإحالته بينه وبين مالكه ، فإن رجع ذلك الشيء على صاحبه قيل : رجع إلى ملكه أي إلى حاله التي كان فيها حقيقة ، والله عز وجل قادر على الأشياء التي خلقها ويخلقها لا يمتنع عليه منها شيء ، وقد قرأ ابن كثير ونافع وأَبو عمرو وابن عامر وحمزة مَلِك يوم الدين بغير أَلف ، وقرأَ عاصم والكسائي ويعقوب مالك بأَلف ، وقد رويت القراءتان عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) ، والله عز وجل مالك الملك ، ملكه عن أصالة واستحقاك ، لأن علة استحقاق الملك أمران :
الأول : صناعة الشيء وإنشائه وإيجاده واختراعه ، وقد علم عقلا أن المخترع له براءة الاختراع والمؤلف له حق الطبع والنشر ، وعند البخاري أن عُمَر بن الخطاب رضى الله عنه قال : ( مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ ، وَيُرْوَى ذلك أيضا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) (2)، وإذا كان ملوك الدنيا لا يمكن لأحدهم أن يؤسس ملكه بجهده أو يصنعه بمفرده فلا بد له من ظهير معين ، سواء من أهله وقرابته أو حزبه وجماعته أو عشيرته وقبيلته ، إذا علم ذلك فإن الله عز وجل هو المتفرد بالملكية حقيقة فلا أحد ساعده في إنشاء الخلق أو عاونه على استقرار الملك أو يمسك السماء معه أن تقع على الأرض قال تعالى : } أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ { [الأعراف:54] ، وقال : } مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُدا { [الكهف :51] ، وعند البخاري من حديث عَمرانَ رضى الله عنه أن النبيِّ صلى الله عليه و سلم قال : ( كان اللهَ ولم يكن شيء قبلهُ ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ وكتب في الذكر كل شيء ) (3) .
أما العلة الثانية لاستحقاق الملك فهي دوام الحياة ، لأنه يوجب انتقال الملكية وثبوت التملك ، ومعلوم أن كل من على الأرض ميت زائل فان ، كما قال سبحانه وتعالى : } كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام { [الرحمن:27] ، وقال أيضا : } كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِليْنَا تُرْجَعُون { [العنكبوت :57] ، ولما كانت الحياة وصف ذات لله والإحياء وصف فعله ، فإن الملك بالضرورة سيئول إلى خالقه ومالكه كما قال : } لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّار { [غافر :16] ، وقال تعالى : } وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير { [آل عمران :180] .
فالملك لله في المبتدأ عند إنشاء الخلق فلم يكن أحد سواه ، والملك لله في المنتهى عند زوال الأرض لأنه لن يبق من الملوك سواه ، وهو الملك من فوق عرشه لا خالق ولا مدبر للكون إلا الله ، فالمَلك هو المتصرف بالأمر والنهي في مملكته وهو القائم بسياسة خلقه ، وملكه هو الحق الدائم له بحق دوام الحياة ، ولما كان الحق سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير ، فإنه إلزاما ينفرد بالملك والتقدير ، وينفرد أيضا بأنه المالك المستحق للملك ، قال ابن القيم : ( الفرق بين الملك والمالك أن المالك هو المتصرف بفعله ، والملك هو المتصرف بفعله وأمره ، والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وأمره ) (4) ، ولعله يقصد أن مالك الشيء لا يلزم أن يكون ملكا لوجود من يرأسه ويمنع تصرفه في ملكه ، أما الملك الذي له الملكية والملك فله مطلق التدبير والأمر .
الله جل جلاله الرَّزَّاقُ :
الرزاق في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعال من اسم الفاعل الرازق ، فعله رزق يرزق رزقا ، والمصدر الرزق وهو ما ينتفع به والجمع أرزاق (5) .
وحقيقة الرزق هو العطاء المتجدد الذي يأخذه صاحبه في كل تقدير يومي أو سنوي أو عمري فينال ما قسم له في التقدير الأزلي ، والرزاق سبحانه هو الذي يتولى تنفيذ المقدر في عطاء الرزق المقسوم والذي يخرجه في السماوات والأرض ، فإخراجه في السماوات يعني أنه مقضي مكتوب ، وإخراجه في الأرض يعني أنه سينفذ لا محالة ولذلك قال الله تعالى في شأن الهدهد الموحد ومخاطبته سليمان عليه السلام : } أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ { [النمل:26] ، فالرزق مكتوب في السماء ، وهو وعد الله فيما تم به القضاء قبل أن يكون واقعا مقدورا في الأرض ، قال تعالى وجود الرزق قضاء في السماء : } وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ { [ الذريات:22] ، وقال عن تنفيذ ما قسمه لكل مخلوق فيما سبق به القضاء : } وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [العنكبوت:60] ، وقال : } وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا { [هود:6] ، فالله يتولاها لحظة بلحظة تنفيذا للمقسوم في سابق التقدير .
فالرزاق سبحانه هو الذي يتولى تنفيذ العطاء الذي قدره لأرزاق الخلائق لحظة بلحظ فهو كثير الإنفاق ، وهو المفيض بالأرزاق رزقا بعد رزق ، مبالغة في الإرزاق وما يتعلق بقسمة الأرزاق وترتيب أسبابها في المخلوقات ، ألا ترى أن الذئب قد جعل الله رزقه في أن يصيد الثعلب فيأكله ، والثعلب رزقه أن يصيد القنفذ فيأكله ، والقنفذ رزقه أن يصيد الأفعى فيأكلها ، والأفعى رزقها أن تصيد الطير فتأكله ، والطير رزقه في أن يصيد الجراد فيأكله (6) ، وتتوالى السلسلة في أرزاق متسلسلة رتبها الرزاق في خلقه ، فتبارك الذي أتقن كل شيء في ملكه وجعل رزق الخلائق عليه ، ضمن رزقهم وسيؤديه لهم كما وعد ، وكل ذلك ليركنوا إليه ويعبدوه ويوحدوه ، قال تعالى : } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ { [الذاريات:57] (7) .
فالأرزاق مقسومة ولَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ ، وعند مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنه أنه قَالَ ( قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم : اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم : ( قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ ) (8) .
وقال تعالى : } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا { [الطلاق:3] ، وفي هذا بيان أن الذي قدره من الرزق على العموم والإجمال سيتولاه في الخلق على مدار الوقت والتفصيل فهو سبحانه الرزاق الخلاق القدير المقتدر ، قال ابن القيم :
وكذلك الرزاق من أسمائه والرزق من أفعاله نوعان
رزق على يد عبده ورسوله نوعان أيضا ذان معروفان
رزق القلوب العلم والإيمان والرزق المعد لهذه الأبدان
هذا هو الرزق الحلال وربنا رزاقه والفضل للمنان
والثاني سوق القوت للأعضاء في تلك المجاري سوقه بوزان
هذا يكون من الحلال كما يكون من الحرام كلاهما رزقان
والله رازقه بهذا الاعتبار وليس بالإطلاق دون بيان (9).
الله جل جلاله الوَكيلُ :
الوَكِيل في اللغة هو القَيِّم الكَفِيل الذي تكفل بأرْزَاق العِبَاد ، وحَقِيقة الوكيل أنه يَسْتَقل بَأَمْر المَوْكُول إليه ، يقال : تَوَكَّلَ بالأَمْر إذا ضَمِنَ القِيام به ، وَوَكَّلت أمْرِي إلى فلان أي ألْجَأته إليه ، واعْتَمدت فِيه عَلَيه ، وَوَكَّل فُلان فُلاناً إذا اسْتَكفاه أَمْرَه إما ثقةً بِكفايَتِه أو عَجزاً عن القيام بأمر نفسه ، ووكيلك في كذا إذا سلمته الأمر وتركته له وفوضته إليه واكتفيت به (10) ، فالتوكل قد يأتي بمعنى تولي الإشراف على الشيء ومراقبته وتعهده ومنه ما رواه البخاري من حديث سهل بن سعد رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( من توكل لي ما بين رجليه ، وما بين لحييه ، توكلت له بالجنة ) (11) ، وقد يأتي التوكل بمعنى الاعتماد على الغير والركون إليه ومنه ما ورد في قوله تعالى : } وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ { [الطلاق/3] ، وربما يفسر الوكيل بالكفيل ، والوكيل أعم لأن كل كفيل وكيل وليس كل وكيل كفيلا ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم : ( لو أنكم كنتم توكلون على اللَّه حق توكله ، لرزقتم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا ) (12) .
والوكيل سبحانه هو الذي توكل بالعالمين خلقا وتدبيرا وهداية وتقديرا فهو المتوكل بخلقه إيجاد وإمدادا كما قال تبارك وتعالى : } ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ { [الأنعام:102] ، وقال تعالى : } اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ { [الزمر:62] ، وقال هود عليه السلام : } إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا { [هود:56] ، فالوكيل الكفيل بأرزاق عباده ومصالحهم (13) .
وهو سبحانه وكيل المؤمنين الذين جعلوا اعتقادهم في حوله وقوته ، وخرجوا من حولهم وطولهم وآمنوا بكمال قدرته ، وأيقنوا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، فركنوا إليه في جميع أمورهم ، وجعلوا اعتمادهم عليه في سائر حياتهم ، وفوضوا إليه الأمر قبل سعيهم ، واستعانوا به حال كسبهم ، وحمدوه بالشكر بعد توفيقهم ، والرضا بالمقسوم بعد ابتلائهم قال تعالى : } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ { [الأنفال:2] ، وقال سبحانه في وصف المؤمنين : } الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ { [آل عمران:173] ، وقال لنبيه صلى الله عليه و سلم : } وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً { [الأحزاب:48] ، وقال : } رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً { [المزمل:9] (14) .
ويذكر ابن القيم أن توكيل العبد ربه يكون بتفويضه نفسه إليه وعزلها عن التصرف إلا بإذنه يتولي شئون أهله ووليه ، وهذا هو عزل النفس عن الربوبية وقيامها بالعبودية وهو معنى كون الرب وكيل عبده أي كافيه والقائم بأموره ومصالحه لأنه ينوب عنه في التصرف ، فوكالة الرب عبده أمر وتعبد وإحسان له وخلعة منه عليه لا عن حاجة منه وافتقار إليه ، وأما توكيل العبد ربه فتسليم لربوبيته وقيام بعبوديته (15) .
الله جل جلاله الرَّقيبُ :
الرقيب في اللغة فعيل بمعنى فاعل وهو الموصوف بالمراقبة ، فعله رقب يرقب رقابة والرقابة تأتي بمعنى الحفظ والحراسة والانتظار مع الحذر والترقب ، وعند البخاري من حديث ابن عمر رضى الله عنه أن أبا بكر رضى الله عنه قال : ( ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ ) (16) ، أي احفظوه فيهم ، وقال هارون عليه السلام : } إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي { [طه:94] ، فالرقيب الموكل بحفظ الشيء المترصد له المتحرز عن الغفلة فيه ورقيب القوم حارسهم ، وهو الذي يشرف على مرقبة ليحرسهم ، ورقيب الجيش طليعتهم ، والرقيب الأمين ، وارتقب المكان أشرف عليه وعلا فوققه (17) .
والرقيب سبحانه هو المطلع على خلقه ، يعلم كل صغيرة وكبيرة في ملكه ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء قال تعالى : } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { [المجادلة:7] ، وقال : } أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ { [الزخرف:80] ، ومراقبة الله لخلقه مراقبة عن استعلاء وفوقية ، وقدرة وصمدية ، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه ، ملك له الملك كله ، وله الحمد كله ، أزمة الأمور كلها بيديه ، ومصدرها منه ومردها إليه ، مستو على عرشه لا تخفى عليه خافية ، عالم بما في نفوس عباده مطلع على السر والعلانية ، يسمع ويرى ، ويعطي ويمنع ، ويثيب ويعاقب ، ويكرم ويهين ، ويخلق ويرزق ، ويميت ويحيي ، ويقدر ويقضي ، ويدبر أمور مملكته ، فمراقبته لخلقه مراقبة حفظ دائمة ، وهيمنة كاملة ، وعلم إحاطة (18).
والله عز وجل رقيب راصد لأعمال العباد وكسبهم ، عليم بالخواطر التي تدب في قلوبهم ، يرى كل حركة أو سكنة في أبدانهم ، ووكل ملائكته بكتابة أعمالهم وإحصاء حسناتهم وسيئاتهم ، قال تعالى : } وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ { [الانفطار:10/12] ، فالملائكة تسجيل أفعال الجنان والأبدان ، وقال تعالى عن تسجيلهم لقول القلب وقول اللسان : } وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ { [ق:16/18] ، وهو سبحانه وتعالى من فوقهم رقيب عليهم وعلى تدوينهم ، ورقيب أيضا على أفعال الإنسان ، قال تعالى : } وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ { [يونس:61].
الله جل جلاله المُحْسِنُ :
اسم الله المحسن ورد في السنة النبوية مطلقا منونا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية وكمالها ، كما ورد عند الطبراني وصححه الألباني من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا حكمتم فاعدلوا وإذا قتلتم فأحسنوا ، فإن الله عز وجل محسن يحب الإحسان )(1) ، وكذلك ورد من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين قال : ( إن الله محسن يحب الإحسان إلي كل شيء ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ) (2) ، وقد ورد الحديث عند مسلم من حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه لكن فيه ذكر الوصف دون الاسم قَالَ شَدَّاد : ( ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ) (3) .
الله جل جلاله الحَسيبُ :
ورد اسم الله الحسيب في القرآن مطلقا منونا مقرونا بمعاني العلو والفوقية في قوله تعالى : ( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ) [النساء:86] ، فالله من فوق عرشه حسيب باسمه ووصفه ، له الكمال المطلق في محاسبته لخلقه وله الكمال في علو شأنه ، فإن أضفت إلى الإطلاق اجتماع معاني العلو كان ذلك من جمال الكمال في الاسم والصفة ، وقد ورد الاسم مقيدا في قول الله تعالى : ( فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ) [النساء:6] .
الله جل جلاله الشَّافِي :
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، فقد ورد معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه فعند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَتَي مَرِيضًا أَوْ أُتِي بِهِ قَالَ : ( أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا ) (4) ، وكذلك ورد الحديث في صحيح مسلم عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قَالَتْ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ : أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا ) ، وهذه الأحاديث التي ثبتت في معظم كتب السنة ورد فيها الاسم والوصف معا (5) .
الله جل جلاله الرِّفيقُ :
اسم الله الرفيق ورد في السنة النبوية مطلقا معرفا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية وكمالها ، كما ورد عند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ : ( اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَي النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ ، فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ ، قُلْتُ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ : قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ ) (6) ، وعند مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لها : ( يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَي الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَي مَا سِوَاهُ ) (7) .
الله جل جلاله المُعْطي :
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، فقد ورد معرفا عند البخاري من حديث مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ وَاللَّهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ ، وَلاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ) (8) ، وفي رواية أخرى عند البخاري ذكر الوصف بدلا من الاسم : ( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ ، وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، أَو حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ ) (9) ، والوصف لا يكفي وحده لإثبات المعطي المانع ، ولذا فإن الثابت اسم الله المعطي للحديث الذي سبق ونص على الاسم
الله جل جلاله المُحْسِنُ :
المحسن في اللغة اسم فاعل فعله أحسن يحسن إحسانا فهو محسن ، والحُسْنُ ضدُّ القُبْح وحَسَّن الشيء تحسِينا زينه ، وأحْسَنَ إليه وبه صنع له وبه معروفا ، وهو يحسن الشيء أي يعلمه بخبره ، واستحسن الشيء رغب فيه وتعلق به واعتبره حَسَنا ، والمَحَاسِنُ ضد المساوئ ، والحُسْنَى البالغة الحسن في كل شيء من جهة الكمال والجمال ، كما قال تعالى : } لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ { [يونس:26] ، فالحُسْنى هي الجنّة والزّيادة النظر إلى وجه اللَّه تعالى يوم القيامة ، فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم والصحابة من بعده (1) .
وقوله عزّ وجلّ : } وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى { [لقمان:22] المحسن في الشرع هو الذي بلغ درجة الإحسان ، والإحسان فسره النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عمر رضى الله عنه قال : ( الإِحْسَان أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) ، وقال تعالى : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ { [النحل:90] قيل : أَراد بالإِحسان الإِخْلاص ، وهو شرطٌ في صحةِ الإِيمان والإِسلام معا ، وقيل أَراد بالإِحسان الإِشارةَ إلى المُراقبة وحُسْن الطاعة ، فإِن مَنْ راقَب اللَّهَ أَحسَن عمَله ، والمعنى يشمل الاثنين معا (2) .
والمحسن سبحانه هو الذي له كمال الحسن في أسمائه وصفاته وأفعاله ، كما قال تعالى في كتابه : } اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى { [طه:8] ، فلا شيء أكمل ولا أجمل من الله ، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعته ، وهو الذي لا يحد كماله ولا يوصف جلاله ، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، ليس في أفعاله عبث ولا في أوامره سفه ، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة والعدل والفضل والرحمة ، إن أعطى فبفضله ورحمته وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته ، وهو الذي أحسن كل شيء خلقه فأتقن صنعه وأبدع كونه وهداه لغايته ، وأحسن إلى خلقه بعموم نعمه وشمول كرمه وسعة رزقه على الرغم من مخالفة أكثرهم لأمره ونهيه ، وأحسن إلي المؤمنين فوعدهم الحسني وعاملهم بفضله ، وأحسن إلى من أساء فأمهله ثم حاسبه بعدله (3).
الله جل جلاله الحَسيبُ :
الحسيب في اللغة من صيغ المبالغة ، فعله حسِب يحسِب حسَابا وحسبانا ، واسم الفاعل الحاسب وهو الموصوف بمحاسبة غيره ، والحساب ضبط العدد وبيان مقادير الأشياء المعدودة ، سواء كان ذلك جزما أم ظنا ، والحسيب هو الكافي الكريم الرفيع الشأن ، والحسب في حقنا هو الشَّرَفُ الثابِتُ في الآباءِ ، والحَسَبُ أيضا هو الفعل الصَّالِحُ ، ويقال : رُبَّ حَسِيبِ الأَصلِ غيرُ حَسِيب ، ِأَي لَه آباءٌ يَفْعَلُونَ الخَيْرَ ولا يَفْعَلُه هو (4) .
والحسيب سبحانه هو الكافي الذي يخلق ما يكفي العباد من أرزاقهم ، قال أبو حامد الغزالي : ( الحسيب هو الكافي وهو الذي من كان له كان حسبه والله سبحانه وتعالى حسيب كل أحد وكافيه وهذا وصف لا تتصور حقيقته لغيره فإن الكفاية إنما يحتاج إليها المكفي لوجوده ولدوام وجوده ولكمال وجوده وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلا الله عز وجل فإنه وحده كاف لكل شيء لا لبعض الأشياء أي هو وحده كاف ليحصل به وجود الأشياء ويدوم به وجودها ويكمل به وجودها ) (5)، وهو سبحانه أيضا الذي يكفي عباده إذا التجئوا إليه واستعانوا به واعتمدوا عليه ، قال تعالى : } الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ { [آل عمران:173/174] ، وعند البخاري عن ابن عباس رضى الله عنه قال : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام حِينَ أُلْقِىَ في النَّارِ ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ قَالُوا : } إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ { (6)، ومن كان الله حسيبه كفاه ، ومن عرف الحسيب حاسب نفسه قبل أن يلقاه .
والحسيب جل شأنه هو الذي يحصي أعداد المخلوقات وهيئاتها وما يميزها ويضبط مقاديرها وخصائصها ، ويحصي أعمال المكلفين في مختلف الدواوين ، يحصي أرزاقهم وأقدارهم وأفعالهم ومآلهم ، في حال كونهم وبعد موتهم وعند حسابهم يوم يقوم الأشهاد ، فهو المجازي للخليقة عند قدومها بحسناتها وسيئاتها وحِسابُه واقعٌ لا محالة ، لا يَشْغَلُه حِسابُ واحد عَن آخَر كما لاَ يَشْغَلُه سَمْع عن سمع ولا شَأْنٌ عن شأْنٍ فهو سريع الحساب ، قال تعالى : } الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ { [غافر:17] (7).
والحسيب أيضا هو الكريم العظيم المجيد الذي له علو الشأن ومعاني الكمال ، وله في ذاته وصفاته مطلق الجمال والجلال ، قال تعالى : } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { [الشورى:11] ، وقال تعالي : } هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً { [مريم:65] (8) .
الله جل جلاله الشَّافِي :
الشافي في اللغة اسم فاعل ، فعله شفى يشفي شفاءََ ، وشفى كل شيء حرفه قال تعالى : } وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ { [آل عمران:103] ، والشِّفاء موافاة شفا السلامة وصار اسما للبرء ، فالشفاء هو الدواء الذي يكون سببا فيما يبرئ من السَّقَمِ ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث جَابِرٍ رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قَالَ : (فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ ) (9)، واسْتَشْفَى طلب الشِّفاء وناله ، وعند مسلم من حديث عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَال عن هجاء حسان رضى الله عنه لقريش : ( هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى ) (10) ، أَراد أَنه شَفى المؤمنين واشْتفى بنَفْسِهِ أَي اخْتَصَّ بالشِّفاء ، وهو من الشِّفاء أو البُرْءِ من المرض لكن المعنى نقل من شِفاء الأَجسامِ إِلى شِفاءِ القلوبِ والنُّفُوسِ يقال : اشْتَفَيْتُ بكذا وتَشَفَّيْت من غَيْظِي (11) .
والشافي سبحانه هو الذي يرفع البأس والعلل ، ويشفي العليل بالأسباب والأمل فقد يبرأ الداء مع انعدام الدواء ، وقد يشفي الداء بلزوم الدواء ، ويرتب عليه أسباب الشفاء ، وكلاهما باعتبار قدرة الله سواء ، فهو الشافي الذي خلق أسباب الشفاء ورتب النتائج على أسبابها والمعلولات على عللها فيشفي بها وبغيرها ، لأن حصول الشفاء عنده يحكمه قضاؤه وقدره ، فالأسباب سواء ترابط فيها المعلول بعلته أو انفصل عنها هي من خلق الله وتقديره ومشيئته وتدبيره ، والأخذ بها إنما هو إلزام من قبل الحكيم سبحانه لإظهار الحكمة في الشرائع والأحكام وتمييز الحلال والحرام وظهور التوحيد والإسلام ، فاللّه عزّ وجلّ متصف بالقدرة والحكمة ومن أسمائه القدير الحكيم ، فبالقدرة خلق الأشياء وأوجدها ، وهداها وسيرها ، وهذا توحيد الربوبية ، وبالحكمة رتب الأسباب ونتائجها وابتلانا من خلالها تحقيقا لتوحيد العبودية ، وإنما مثل الأسباب كمثل الآلة بيد الصانع ، فكما لا يقال : السيف ضرب العنق ولا السوط ضرب العبد ، وإنما يقال : السياف ضرب العنق وفلان ضرب فلانا بالسوط ، فكذلك لا يقال شفاني الدواء أو الطبيب لأنها أسباب وعلل ، والعلل كما ذكر النبي صلى الله عليه و سلم فيما صح عنه : ( طبيبها الذي خلقها ) (12) ، هو القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة ، ولذلك قال إبراهيم عليه السلام : } وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ { [الشعراء:80] ، وقد وحد الغلام ربه في اسمه الشافي لما قال له الوزير في قصة أصحاب الأخدود : ( مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي ، فَقَالَ : إِنِّي لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ ، فَآمَنَ بِاللَّهِ ، فَشَفَاهُ اللَّهُ ) (13) .
والله عز وجل هو الشافي الذي يشفي النفوس من أسقامها كما يشفي الأبدان من أمراضها قال تعالى : } يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ { [يونس:57] وقد ذكر ابن القيم أن القلب متى اتصل برب العالمين خالق الداء والدواء ومدبر الطب ومصرفه على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه ، فإذا قويت النفس بإيمانها وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه وجمع أمورها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه فإن ذلك يكون لها من أكبر الأدوية في دفع الألم بالكلية (14) .
الله جل جلاله الرِّفيقُ :
الرفيق في اللغة من صيغ المبالغة فعيل بمعنى فاعل ، فعله رَفَقَ يَرْفُق رِفْقا ، والرِّفْق هو اللطف وهو ضد العنْف ، ويعني لِين الجانب ولَطافة الفعل ، رفق بالأَمر وله وعليه وهو به رَفِيق يعني لَطِيف ، وعند أحمد من حديث عائشة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ عُزِلَ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ) (15) ، فالرفق هو اللّطفُ ، ورَفِيقُكَ هو الذي يُرافِقُك في السفر تَجْمَعُكَ وإِيّاه رفقة واحدة ، والرفيق أيضا هو الذي يتولي العمل برفق ، أو يتَرفق بالمريض ويتلطف به ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَبِى رِمْثَةَ أن أباه ه قَالَ للرسول صلى الله عليه و سلم : ( أَرِنِي هَذَا الَّذِي بِظَهْرِكَ فَإِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ قَالَ صلى الله عليه و سلم : اللَّهُ الطَّبِيبُ ، بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ ، طَبِيبُهَا الَّذِي خَلَقَهَا ) (16)، والمِرْفَقُ من مَرَافِق الدار الأماكن المصاحبة للدار من خدمات مختلفة كمَصابُّ الماء ونحوُها والمَرفِق من الإِنسان والدابة أَعلى الذِّراع وأَسفلُ العَضُد (17) .
والرفيق سبحانه هو اللطيف بعباده القريب منهم يغفر لهم ويتوب عليهم ، وهو الذي تكفل بهم من غير عوض ، فييسر أسبابهم ، وقدر أرزاقهم ، وهداهم لما يصلحهم ، فنعمته عليهم سابغة ، وحكمته فيهم بالغة ، يحب عباده الموحدين ويتقبل صالح أعمالهم ، ويقربهم وينصرهم على عدوهم ، ويعاملهم بعطف ورحمة وإحسان ويدعو من خالفه إلى التوبة والإيمان ، فهو الرفيق المحسن في خفاء وستر ، يحاسب المؤمنين بفضله ورحمته ، ويحاسب المخالفين بعدله وحكمته ، ترغيبا لهم في توحيده وعبادته ، وحلما منه حتى يدخلوا جميعا في طاعته (18) .
والله عز وجل رفيق يتابع عباده في حركاتهم وسكناتهم ، ويتولاهم في حلهم وترحالهم بمعية عامة وخاصة ، فالمعية العامة كقوله تعالى : } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { [المجادلة:7] ، والمعية الخاصة كقوله تعالى : } إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا { [التوبة:40] ، وكقوله : } وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ { [الأنفال:19] ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس رضى الله عنه قال : كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَوْمًا فَقَالَ : ( يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ) (19) ، وعند مسلم من حديث ابن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول إذا خرج للسفر : ( اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ ) (20) ، وهو الرفيق الذي يجمع عباده الموحدين عنده في الجنة كما قالت امرأت فرعون : } رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ { [التحريم:11] وعند البخاري من حديث عائشة قالت : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ وَهْوَ صَحِيحٌ : لَنْ يُقْبَضَ نَبِي قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي ، غُشِي عَلَيْهِ سَاعَةً ، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى ، قُلْتُ : إِذًا لاَ يَخْتَارُنَا ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا ، وَهْوَ صَحِيحٌ ، قَالَتْ : فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا : اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى ) (21) .
الله جل جلاله المُعْطي :
المعطي أصل فعله عطا عطَوْت عطوا ، والعطو هو التناول والعَطاءُ ، والعَطِيَّة اسمٌ لما يُعْطَي وجمعها عَطايا وأَعْطِيَة ، والعطاء إعطاء المال ، والعَطاء أَصله اللفظي عَطاو بالواو لأَنه من عَطَوْت إِلا أَنَّ العرب تَهْمِزُ الواو والياء إِذا جاءتا بعد الأَلف لأنها أفضل في النطق والحركة ، ويقال : اسْتَعْطَى وتَعَطَّي يعني سأَل العَطاءَ ، وإِذا أَردْتَ من زَيدٍ أَن يُعْطِيكَ شيئاً تقولُ : هل أَنتَ مُعْطِيَّه ؟ (22) .
والمعطي سبحانه هو الذي أعطى كل شيء خلقه وتولى أمره ورزقه في الدنيا والآخرة كما قال تعالى عن موسى عليه السلام وهو يصف عطاء الربوبية : } قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى { [طه:50] ، وقال تعالى عن عطاء الآخرة : } وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ { [هود:108] ، وعطاء الله قد يكون عاما أو خاصا ، فالعام يكون للخلائق أجمعين ، والخاص للأنبياء والمرسلين وصالح المؤمنين ، فمن العطاء العام ما ورد في قوله تعالى : } كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً { [الإسراء:20] ، والعطاء هنا هو تمكين العبد من الفعل ومنحه القدرة والاستطاعة ، كل على حسب رزقه وقضاء الله وقدره ، ومن العطاء الخاص استجابة الدعاء وتحقيق مطلب الأنبياء ، والصالحين من الأولياء ، ومن ذلك الدعاء والعطاء في قصة سليمان عليه السلام : } قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ { [صّ:39] ، وكذلك في دعاء زكريا عليه السلام حيث قال : } وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً { [مريم:5] ، فحقق الله مطلبه وأعطاه ما يتمناه فقال : } يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً { [مريم:7] ، وقال تعال عن عطائه للمؤمنين في الآخرة : } جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً { [النبأ:36].
الله جل جلاله المُقيتُ :
سمى الله نفسه في كتابه المقيت فقد ورد الاسم مطلقا منونا مقرونا بمعاني العلو والفوقية في موضع واحد من القرآن في قوله تعالى : ( مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً ) [النساء:85] ، فالله من فوق عرشه مقيت له الكمال المطلق في إقاتة خلقه ورزقهم فإذا أضيف إلى الإطلاق اجتماع معاني العلو كان ذلك من جمال الكمال في الاسم والصفة .
الله جل جلاله السَّيِّدُ :
ثبت اسم الله السيد في السنة ، فقد سماه به النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، ففي سنن أبي داود وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رضي الله عنه قالَ : ( انْطَلَقْتُ في وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلنا : أَنْتَ سَيِّدُنا ، فقَالَ : السَّيِّدُ الله ، قُلْنا : وَأَفْضَلُنا فَضْلاً ، وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً ، فَقَالَ : قُولُوا بِقَوْلِكم أَوْ بَعْضِ قَوْلِكمُ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنَّكمْ الشَّيْطَانُ ) (1) ، والمعنى تكلموا بما جئتم من أجله ودعكم من المبالغة في التعظيم والتسييد التي تفتح باب الشيطان .
وفي المسند من حديث قَتَادَةَ قَالَ : سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أن رجلا جَاءَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : ( أنْتَ سَيِّدُ قُرَيْش ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : السَّيِّدُ اللَّهُ ، قَالَ : أَنْتَ أَفْضَلُهَا فِيهَا قَوْلاً وَأَعْظَمُهَا فِيهَا طَوْلاً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لِيَقُلْ أَحَدُكُمْ بِقَوْلِهِ وَلاَ يَسْتَجِرُّهُ الشَّيْطَانُ ) (2) .
فالحديث يدل دلالة صريحة على إثبات اسم الله السيد ، وأن الذي سماه بذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس بعد قول رسول الله تعقيب صلى الله عليه وسلم ، لأنه صلى الله عليه وسلم يعني السيادة المطلقة التي تتضمن كل أوجه الكمال والجمال ، فالسيد إطلاقا هو رب العزة والجلال ، ولم ينف صلى الله عليه وسلم السيادة المقيدة التي تليق بالمخلوق ، أو السيادة النسبية التي تتضمن المفاضلة والتفوق على الآخرين (3).
الله جل جلاله الطَّيِّبُ :
اسم الله الطيب لم يرد في القرآن ولكن ورد في السنة مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في صحيح مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا ) (4) ، وروى الترمذي وحسنه الألباني من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ رضي الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ ) (5) ، وهذا الحديث ليس أصلا في إثبات الاسم لأنه حسن ، والحديث الحسن هو من رواية الصدوق الذي خف ضبطه كما تقدم في شروط الإحصاء ، ولذلك ليس من أسمائه الحسنى النظيف ، وإنما الثابت الصحيح في الروايات الأخرى الجميل كما سيأتي ، فالأصل في إثبات اسم الله الطيب هو حديث مسلم فتنبه .
الله جل جلاله الحَكَمُ :
اسم الله الحكم ورد في السنة النبوية مطلقا معرفا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، كما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ هَانِئٍ رضي الله عنه : ( أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ : إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِي كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا أَحْسَنَ هَذَا ، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ ؟ قَالَ لِي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ، قَالَ فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ؟ قُلْتُ : شُرَيْحٌ ، قَالَ : فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ) (6) ، فالنص صريح في إثبات الاسم
الله جل جلاله الأَكْرَمُ :
سمى الله نفسه الأكرم في القرآن في قوله تعالى : ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) [العلق:3] وقد ورد الاسم في الآية مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حتى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي )
الله جل جلاله المُقيتُ :
المقيت اسم فاعل للموصوف بالإقاتة ، فعله أقات وأصله قَات يَقُوت قُوتا والقوت لغة هو ما يمسك الرمق من الرزق ، تقول : قات الرجلَ وأقاته أي أعطاه قوته ، والمصدر القوت ، وهو المدخر المحفوظ الذي يقتات منه حين الحاجة ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ) (1) .
والمقيت سبحانه هو المقتدر الذي خلق الأقوات وتكفل بإيصالها إلى الخلق وهو حفيظ عليها ، فيعطي كل مخلوق قوته ورزقه على ما حدده سبحانه من زمان أو مكان أو كم أو كيف بمقتضى المشيئة والحكمة ، فربما يعطي المخلوق قوتا يكفيه لأمد طويل أو قصير كيوم أو شهر أو سنة ، وربما يبتليه فلا يحصل عليه إلا بمشقة وكلفة ، والله عز وجل خلق الأقوات على مختلف الأنواع والألوان ويسر أسباب نفعها للإنسان والحيوان قال تعالى : } وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ { [الأنعام:141] ، وكما أنه سبحانه المقيت الذي يوفي كامل الرزق للإنسان والحيوان ، فإنه أيضا مقيت القلوب بالمعرفة والإيمان ، وهو الحافِظُ لأعمال العباد بلا نقصان ولا نسيان (2) ، قال البيهقي في تفسير الاسم : ( المقيت هو المقتدر فيرجع معناه إلى صفة القدرة ، وقيل : المقيت الحفيظ وقيل هو معطي القوت فيكون من صفات الفعل ) (3) .
الله جل جلاله السَّيِّدُ :
السيد في اللغة أصله من سادَ يَسُودُ فهو سَيْوِد ، فقُلبت الواو ياء لأجْل الياء الساكنة قبلها ثم أدغمت ، وقد سادهم سُوداً وسِيادةً يعني استادهم ، والسَّيّد يُطْلق على الربِّ والمالِك والشَّرِيف والفاَضِل والكَريم والحَلِيم ومُتَحمِّل أذَى قَومِه والزَّوج والرئيس والمقدَّم ، والسيد على الإطلاق هو اللَّه لأنه مالك الخلق أَجمعين ولا مالك لهم سواه (4) .
وقد ظن البعض المتكلمين أن تسمية الله بالسيد ، قد يؤدى إلى التشبيه لأن بعض الناس يتسمى به ويوصف به ومن ثم لم يجعلوه من الأسماء وحاولوا استبعاده مع ثبوته في النص الصريح ، وكثير من الذين حاولوا تتبع الأسماء من نصوص القرآن والسنة لم يعتبروه اسما بحجة أنه لم يأت تسميته تعالى بالسيد في القرآن ولا في حديث متواتر كما ذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم ، وقد استبعده الغزالي في المقصد الأسنى وابن حجر في حصر الأسماء (5) .
قال ابن القيم فيمن قال لا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم : ( وفي هذا نظر فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو بمعنى المالك والمولى والرب لا بالمعنى الذي يطلق علي المخلوق ) (6) ، فالسيد حقيقة هو الله الذي يحق له السيادة المطلقة ، حقيقة السؤدد ليست إلا له لأن الخلق كلهم عبيده وهو ربهم ، وهو المالك الكريم الحليم الذي يملك نواصيهم ويتولى أمرهم ويسوسهم إلى صلاحهم ، ومعنى السيد الله شائع ذائع في الكتاب والسنة (7) .
قال أبو الطيب في شرحه لسنن أبي داود : ( السيد الله أي هو الحقيق بهذا الاسم قال القاري أي الذي يملك نواصي الخلق ويتولاهم هو الله سبحانه وهذا لا ينافي سيادته المجازية الإضافية ، المخصوصة بالأفراد الإنسانية ، حيث قال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر أي لا أقول افتخارا بل تحدثا بنعمة الله وإلا ، فقد روى البخاري عن جابر أن عمر كان يقول أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا انتهى وهو بالنسبة إلى بلال تواضع ) (8) ، وقال الآلوسي في روح المعاني : ( وإطلاق الصمد بمعنى السيد عليه تعالى مما لا خوف فيه وإن كان في إطلاق السيد نفسه خلاف ، والصحيح إطلاقه عليه عز وجل كما في الحديث ) (9) .
الله جل جلاله الطَّيِّبُ :
الطيب في اللغة على بناء فِعْل ، فعله طاب يطيب طيبا فما أطيبه ، يعني ما أجمله وما أزكاه وما أنفسه وما أحلاه وما أجوده ، والطيب يكون في المحسوسات وغيرها ، فالطيب من المحسوسات هو ما لذ وزكا من خيار المطعومات والملبوسات في الدنيا والآخرة كما ورد في قوله تعالى : } يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً { [البقرة:168] ، وفي النكاح قوله سبحانه : } وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ { [النور:26] ، وقال تعالى عن طيبات الآخرة : } وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { [الصف:12] (10) .
أما الطيب في غير المحسوسات فهو كالطيب من القول والكلمات أو الباقيات الصالحات كما في قوله تعالى : } أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ { [إبراهيم:24] ، وقوله : } لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ { [الأنفال:37] ، وعند مسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه و سلم كان يقول في التشهد : ( التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ .. الحديث ) (11) .
والله عز وجل طيب له الكمال في ذاته وأسمائه وصفاته ، قال تعالى : } اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى { [طه:8] ، وقال : } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ { [الشورى:11] ، وهو أيضا طيب في أفعاله يفعل الأكمل والأحسن ، فهو الذي أتقن كل شيء ، وأحسن كل شيء ، فالحكيم اسمه والحكمة صفته ، وهي بادية في خلقه تشهد لكمال فعله ، وتشهد بأنه جميل جليل عليم خبير ، قال تعالى : } صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ { [النمل:88] ، وقال : } صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ { [البقرة:138] وقال : } الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ { [السجدة:7] ، والطيب أيضا هو القدوس المنزه عن النقائص والعيوب ، قال القاضي عياض : ( الطيب في صفة الله تعالى بمعنى المنزه عن النقائص وهو بمعنى القدوس وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث ) (12) .
وهو سبحانه الطيب الذي طيب الدنيا للموحدين فأدركوا الغاية منها وعلموا أنها وسيلة إلى الآخرة سينتقلون عنها ، وطيب الجنة لهم بالخلود فيها فشمروا إليها سواعدهم وضحوا من أجلها بأموالهم وأنفسهم رغبة في القرب من الله (13) .
الله جل جلاله الحَكَمُ :
الحكم في اللغة من صيغ المبالغة لاسم الفاعل الحاكم ، وهو الذي يحَكم ويفصل ويقضي في سائر الأمور ، فعله حكم يحكم حُكْما ، والحُكْم العلم والفقه ، قال الله تعالى : } يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً { [مريم:12] ، والحكم القضاء بالعدل قال تعالى : } وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ { [النساء:58] ، والحَكَمُ بفتحتين هو الحاكم ، وحَكَّمه في ماله تحكِيماً إذا جعل إليه الحُكْمَ فيه ، واحتكموا إلى الحاكم وتَحَاكمُوا بمعنى واحد } فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً { [النساء:65] ، والمُحاكَمَةُ هي المخاصمة إلى الحاكم (14) .
والحكم سبحانه هو الذي يحكم في خلقه كما أراد ، إما إلزاما لا يرد وإما تكليفا على وجه الابتلاء للعباد ، فحكمه في خلقه نوعان :
أولا : حكم يتعلق بالتدبير الكوني وهو واقع لا محالة لأنه يتعلق بالمشيئة ، ومشيئة الله لا تكون إلا بالمعنى الكوني فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ومن ثم فلا معقب لحكمه ولا غالب لأمره ولا راد لقضائه وقدره ، ومن هذا الحكم ما ورد في قوله تعالى : } أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ { [الرعد:41] ، وكذلك قوله : } قَال رَبِّ احْكُمْ بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ { [الأنبياء:112 ] ، أي افعل ما تنصر به عبادك وتخذل به أعداءك ، ومثال الحكم الكوني أيضا : } وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالذِي أُرْسِلتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ { [الأعراف:87] .
ثانيا : حكم يتعلق بالتدبير الشرعي وهو حكم تكليفي ديني يترتب عليه ثواب وعقاب وموقف المكلفين يوم الحساب ، ومثاله ما جاء في قوله تعالى : } يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلتْ لكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلى عَليْكُمْ غَيْرَ مُحِلي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ { [المائدة:1] ، ومثال الحكم الشرعي أيضا قوله تعالى : } وَمَا اخْتَلفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلى اللهِ { [الشورى:10] ، وقوله : } وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلكَ وَمَا أُولئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ { [المائدة:43] .
قال القرطبي : ( فالحَكَم من له الحكم وهو تنفيذ القضايا وإمضاء الأوامر والنواهي وذلك بالحقيقة هو الله تعالى ، فهذا الاسم يرجع تارة إلى معنى الإرادة ، وتارة إلى معنى الكلام ، وتارة إلى الفعل ، فأما رجوعه إلى الإرادة فإن الله تعالى حكم في الأزل بما اقتضته إرادته ، ونفذ القضاء في اللوح المحفوظ ، يجري القلم فيه على وفاق حكم الله ، ثم جرت الأقدار في الوجود بالخير والشر ، والعرف والنكر على وفاق القضاء والحكم ، وإذا كان راجعا إلى معنى الكلام فيكون معناه المبين لعباده في كتابه ما يطالبهم به من أحكامه كما يقال لمن يبين للناس الأحكام وينهج لهم معاني الحلال والحرام : حكم ، وعلى هذا فلا يكون في الوجود حكم إلا كتابه ، فعنده يوقف إذ هو الحكم العدل ، وإذا كان راجعا إلى الفعل فيكون معناه الحكم الذي ينفذ أحكامه في عباده بإشقائه إياهم وإسعاده وتقريبه إياهم وإبعاده على وفق مراده )(15) ، وقال ابن القيم في نونيته :
والحكم شرعي وكوني ولا يتلازمان وما هما سيان
بل ذاك يوجد دون هذا مفردا والعكس أيضا ثم يجتمعان
لن يخلو المربوب من إحداهما أو منهما بل ليس ينتفيان
لكنما الشرعي محبوب له أبدا ولن يخلو من الأكوان
هو أمره الديني جاءت رسله بقيامه في سائر الأزمان
لكنما الكوني فهو قضاؤه في خلقه بالعدل والإحسان
هو كله حق وعدل ذو رضا والشأن في المقضي كل الشان (16) .
الله جل جلاله الأَكْرَمُ :
الأكرم اسم دل على المفاضلة في الكرم ، فعله كرم يكرم كرما ، والأكرم هو الأحسن والأنفس والأوسع والأعظم والأشرف والأعلى من غيره في كل وصف كمال ، قال تعالى : } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ { [الحجرات:13] (17) .
والأكرم سبحانه هو الذي لا يوازيه كرم ولا يعادله في الكرم نظير ، وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم ، لكن الفرق بين الكريم والأكرم أن الكريم دل على الصفة الذاتية والفعلية معا كدلالته على معاني الحسب والعظمة والسعة والعزة والعلو والرفعة وغير ذلك من صفات الذات ، وأيضا دل على صفات الفعل فهو الذي يصفح عن الذنوب ولا يمن إذا أعطى فيكدر العطية بالمن ، وهو الذي تعددت نعمه على عباده بحيث لا تحصى ، وهذا كمال وجمال في الكرم ، أما الأكرم فهو المنفرد بكل ما سبق في أنواع الكرم الذاتي والفعلي ، فهو سبحانه أكرم الأكرمين ، له العلو المطلق على خلقه في عظمة الوصف وحسنه ، ومن ثم له جلال الشأن في كرمه وهو جمال الكمال وكمال الجمال (18) .
والله عز وجل لا كرم يسموا إلى كرمه ولا إنعام يرقى إلى إنعامه ، ولا عطاء يوازي عطاءه ، وحسبنا ما جاء في قوله : } وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ { [النحل:18] ، وقال : } وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ { [النحل:53] ، وقال : } وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ { [الضحى:11] ، وعند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ) (19) ، الأكرم سبحانه له علو الشأن في كرمه ، يعطى ما يشاء لمن يشاء وكيف يشاء بسؤال وغير سؤال ، وهو يعفو عن الذنوب ويستر العيوب ويجازي المؤمنين بفضله ، ويمهل المعرضين ويحاسبهم بعدله فما أكرمه وما أرحمه وما أعظمه.
الله جل جلاله البَرُّ :
ورد الاسم في القرآن الكريم مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى : ( إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) [الطور:28] ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وابن ماجة ، وهذه الأسماء مدرجة في الأحاديث وتعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بحديثه ، وعلى ذلك لا يصلح الحديث للاحتجاج به على اسم الله البر ، وإن كانت الآية كافية شافية في إثبات الاسم وإحصائه .
الله جل جلاله الغَفَّارُ :
سمى الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية محمولا عليه المعنى مسندا إليه مقرونا باسم الله العزيز في ثلاثة مواضع من القرآن ، كما في قوله تعالى : ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) [ص:66] ، وورد مطلقا منونا في قوله تعالى : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارا ) [نوح10] ، وفي الجامع الصغير للسيوطي وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تضور من الليل ، تقلب وتلوى من شدة الألم ، قال : لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) (1) .
الله جل جلاله الرَّءوفُ :
سمى الله نفسه الرءوف في القرآن في قوله تعالى : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيم ٌ{ [النور20] وقوله : ( رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَحِيمٌ ) ، وفي هذين الموضعين ورد مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وورد مقيدا بالإضافة في قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد ) [البقرة207] ، وعند البخاري من حديث الْبَرَاءِ بن عازب رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ .. إلى أن قال : وَكَانَ الذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (2) .
الله جل جلاله الوَهَّابُ :
ورد الاسم في القرآن الكريم مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في ثلاثة مواضع منها قوله تعالى : ( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) [ص:9] ، وقوله سبحانه : ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) [آل عمران:8] ، ولم يرد الاسم في صحيح السنة إلا بالإشارة إلى الآية التي ورد فيها ، وذلك فيما ورد عند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَىَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ ؛ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى ، قَالَ : رَوْحٌ ، َرَدَّهُ خَاسِئًا )
الله جل جلاله البَرُّ :
الَبرُّ اسم فاعل للموصوف بالبر ، فعله بَرَّ يَبَرُّ فهو بارُّ , وجمعه بَرَرَة , وجمع البَرّ والبِرُّ هو الإحسان ، ومنه ما رواه البخاري من حديث ابن مسعود رضى الله عنه قَالَ : ( سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا ، قَالت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ .. الحديث ) (1) ، والبر في حق الوالدين والأقْربِينَ من الأهل ضدّ العُقُوق وهو الإساءة إليهم والتَّضْييع لحقّهم (2) ، والبَرُّ والبارّ بمعنى واحد , لكن الذي ثبت في أسماء الله تعالى البَرُّ دُون البارّ والأسماء كما علمنا توقيفية على النص .
والبر سبحانه وتعالى هو العَطوف على عبادة ببِرّة ولطفه ، فهو أهل البر والعطاء يحسن إلى عباده في الأرض والسماء ، روى البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ، وَقَالَ : يَدُ اللَّهِ مَلأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ) (3) ، كما أن البر عز وجل هو الصادق في وعده الذي يتجاوز عن عبده وينصره ويحميه ، ويقبل القليل منه وينميه ، وهو المحسن إلى عبادِهِ الذي عَمَّ بِرُّهُ وإحسانُه جميعَ خلقِهِ فما منهم من أحد إلا وتكفل الله برزقه (4) ، قال أبو السعود : ( البر المحسن الرحيم الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب ) (5) .
الله جل جلاله الغَفَّارُ :
الغفار في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعال كثير المغفرة ، فعله غفر يغفر غفرا ومغفرة ، وأَصل الغَفرِ التغطية والستر ، وقد تقدم الحديث عن المعنى اللغوي في تفسير اسم الله الغفور (6) .
والغفار سبحانه هو الذي يستر الذنوب بفضله ويتجاوز عن عبده بعفوه ، وطالما أن العبد موحد فذنوبه تحت مشيئة الله وحكمه ، فقد يدخله الجنة ابتداء وقد يطهره من ذنبه ، والغفور والغفار قريبان في المعنى فهما من صيغ المبالغة في الفعل ، وقيل الغفار أبلغ من الغفور ، فالغفور هو من يغفر الذنوب العظام ، والغفار هو من يغفر الذنوب الكثيرة ، غفور للكيف في الذنب وغفار للكم فيه (7) ، وقد تكون هناك من الفروق ما لم يظهر حتى الآن مما يظهر إعجاز القرآن فيما يستقبل من الزمان ، كما هو الحال في الإعجاز العددي لحساب الحروف والجمل فإنها أمور تزيد العقل عجزا في تصور عظمة القرآن (8) ، وقد ظهر الآن الإعجاز الصوتي للأسماء الحسنى وإن كان الأمر يتطلب مزيدا من الأدلة ، فقد تبين بالتجربة أن كل اسم له تأثير صوتي على الجهاز المناعي في الإنسان ، وأمور أخرى تبين أن اسم الله الغفار على وزن فعال له موضعه المحسوب بدقة في كتاب الله ، وأنه يختلف عن اسم الله الغفور على وزن فعول ، وله أيضا موضعه المحسوب بدقة في كتاب الله (9) .
وأيا كان الفرق فإن الغفار يدل على المبالغة في الكثرة ، والله عز وجل وضع نظاما دقيقا لملائكته في تدوين الأجر الموضوع على العمل ، فهي تسجل ما يدور في منطقة حديث النفس دون وضع ثواب أو عقاب لقوله صلى الله عليه و سلم في الحديث : ( إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلمْ ) (10) ، وهذا يتطلب استغفارا عاما لمحو خواطر الشر النابعة من هوى النفس ، ويتطلب استعاذة لمحو خواطر الشر النابعة من لمة الشيطان ، كما أنها تسجل ما يدور في منطقة الكسب مع وضع الثواب والعقاب ، وهي تسجل فعل الإنسان المحدد بالزمان والمكان ثم تضع الجزاء المناسب بالحسنات والسيئات في مقابل العمل ، فإذا تاب العبد من الذنب محيت سيئاته وزالت وغفرت بأثر رجعي وبدلت السيئات حسنات كما قال تعالى : } إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِل عَمَلاً صَالحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً{ [الفرقان:70] (11) ، وهذه هي المبالغة في المغفرة أن الوزر يقابله بالتوبة الصادقة حسنات فالله عز وجل غفار كثير المغفرة لم يزل ولا يزال بالعفو معروفا ، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفا ، كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته ، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه ، وقد وعد بالمغفرة والعفو لمن أتى بأسبابها كما قال : } وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى { [طه:82] (12) .
الله جل جلاله الرَّءوفُ :
الرءوف صيغة مبالغة من اسم الفاعل الرائف ، وهو الموصوف بالرأفة ، فعله رَأَفَ به يَرْأَفُ رَأْفَةً ، والرأفة في حقنا هي امتلاء القلب بالرقة وأشد ما يكون من الرحمة ، وقيل : بل شدة الرحمة ومنتهاها قال تعالى : } الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ { [النور:2] ، يعني لا تنظروا بأي اعتبار يمكن أن يمنحهم شيئا من الرحمة والرقة فلا ترحموهما فَتُسْقِطُوا عنهما ما أَمَرَ الله به من الحدّ ، ويمكن القول أن الرحمة تسبق الرأفة ، فالرأفة هي المنزلة التي تعقبها ، يقال : فلان رحيم فإذا اشتدت رحمته فهو رءوف فالرأفة آخر ما يكون من الرحمة ، ولذلك قدمت الرأفة على الرحمة في وصف نبينا صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : } لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيمٌ { [التوبة:128] ، على اعتبار أن الرأفة مبالغة في الرحمة ، والمبالغة في الرحمة تتعلق بخاصة والمؤمنين ، أما الرحمة في اسمه الرحيم فهي رحمة عامة لجميع المسلمين ، بخلافة الرحمة في اسمه الرحمن فإنها تتعلق بالخلائق أجمعين ، فالأمر في الرأفة والرحمة على قدر الولاية والإيمان وعلى حسب علو الهمة في عمل والإنسان ، وقد كانت رأفة النبي صلى الله عليه و سلم بأصحابه ما بعدها رأفة مخلوقة وخصوصا يوم فتح مكة (13) .
والرءوف سبحانه هو الذي يتعطف على عباده المؤمنين بحفظ سمعهم وأبصارهم وحركاتهم وسكناتهم في توحيده طاعته وهذا من كمال الرأفة بالصادقين ، روى البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم الحديث القدسي : ( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ التِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ التِي يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ) (14).
وكذلك الرءوف يدل على معنى التعطف على عباده المذنبين ، فيتح لهم باب التوبة ما لم تغرغر النفس أو تطلع الشمس من مغربها ، فقد روي مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم قَال : ( مَنْ تَابَ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللهُ عَليْه ) (15) ، وروي مسلم من حديث أَبِي مُوسَى الأشعري رضى الله عنه أنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَال : ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل يَبْسُطُ يَدَهُ بِالليْل ليَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ الليْل حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) (16) ، والرءوف أيضا هو الذي يخفف عن عباده فلا يكلفهم ما يشق عليهم أو يخرج عن وسعهم وطاقتهم قال تعالى : } يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً { [النساء:28] ، وقال : } لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا { [البقرة:286] (17) .
الله جل جلاله الوَهَّابُ :
الوهاب في اللغة صيغة مبالغة على وزن فعال من الواهب وهو المعطي للهبة ، فعله وهب يهب وهبا وهبة ، والهبة عطاء الشيء بلا عوض ، قال ابن منظور : (الهبة العطية الخالية عن الأعواض والأغراض ، فإذا كثرت سمي صاحبها وهابا وهو من أبنية المبالغة ) (18).
والوهاب سبحانه هو الذي يكثر العطاء بلا عوض ، ويهب ما يشاء لمن يشاء بلا غرض ، ويعطي الحاجة بغير سؤال ، ويسبغ على عباده النعم والأفضال ، نعمه كامنة في الأنفس وجميع المصنوعات ، تراها ظاهرة بادية في سائر المخلوقات ، نعم وعطاء وجود وهبات تدل على أنه المتوحد في اسمه الوهاب قال تعالى : } لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ { [الشورى:50] (19) .
والله جل شأنه يهب العطاء في الدنيا على سبيل الابتلاء ، ويهب العطاء في الآخرة على سبيل الأجر والجزاء ، فعطاؤه في الدنيا علقه بمشيئته وابتلائه للناس بحكمته ليتعلق العبد بربه عند النداء والرجاء ، ويسعد بتوحيده وإيمانه بين الدعاء والقضاء ، وهذا أعظم فضل وهبة وعطاء إذا أدرك العبد حقيقة الابتلاء واستعان بالله في تحقيق ما يتمناه ، قال زكريا عليه السلام في دعائه : } وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً { [مريم:5] ، وقال سبحانه عن عباده الموحدين : } وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً { [الفرقان:74] ، وقال تعالى في المقابل عن الراغبين في الدنيا المعرضين عن الآخرة : } مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُورا ً{ [الإسراء:18] ، فعلق تحقيق مراد العبد في الدنيا على مشيئة الرب ، أما في الآخرة فله كل ما يتمناه قال تعالى : } لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ { [قّ:35] ، فالله عز وجل من أسمائه الحسنى الوهاب ومن صفاته أنه يهب ما يشاء لمن يشاء كيف يشاء ، فإن أوجب شيئا على نفسه فهو من فضله وكرمه فما يعطيه لعباده ظاهرا وباطنا في الدنيا والآخرة إنما هي نعم وهبات وهي من الكثرة بحيث لا تحصيها حسابات .
الله جل جلاله الجَوَادُ :
الجواد من أسماء الله الحسنى التي وردت في السنة ، فقد سماه به النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق منونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه ، كما ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنه ، وكذلك من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله عز وجل جواد يحب الجود ويحب معالي الأخلاق ويبغض سفسافها ) (1) ، وهذا الحديث صحيح بمجموع طرقه صححه الشيخ الألباني وغيره ، وهو المعول عليه في إثبات الاسم (2) .
وعند الترمذي في سننه وحسنه وكذلك عند أحمد من حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا عِبَادِي .. لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابسَكُمُ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مِنْكُمْ مَا سَأَلَ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إِلاَّ كَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ بِالْبَحْرِ فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَيْهِ ، ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ ، أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ ، عَطَائِي كَلاَمٌ وَعَذَابِي كَلاَمٌ ، إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )(3) .
وروى الترمذي في سننه وحسنه الألباني من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ ) (4) .
وهذا الحديث والذي قبله ليس أصلا في إثبات اسم الله الجواد لأنه على أجود الأحكام حديث حسن ، والحسن هو ما اتصل سنده بنقل الصدوق الذي خف ضبطه (5) ، ولذلك لم نعتد به في حصر الأسماء الحسنى وإنما في دلالة الاسم على الصفة ، ومن ثم فإنه ليس من أسمائه الحسنى النظيف ولا الماجد ، وإنما الثابت الصحيح في الروايات الأخرى الجميل والجواد والطيب .
الله جل جلاله السُّبوحُ :
ورد الاسم في السنة مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه في صحيح مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : ( سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ ) (6) ، والحديث ورد أيضا عند أبي داود والنَسائي وأحمد .
الله جل جلاله الوَارِثُ :
ورد الاسم في القرآن على سبيل الإطلاق والتعظيم معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى : ( وَكَمْ أَهْلكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) [القصص:58]، وقوله : ( وَإِنَّا لنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُون ) [الحجر:23] ، وورد أيضا في دعاء زكريا عليه السلام : ( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) [الأنبياء:89]
الله جل جلاله الجَوَادُ :
والجواد في اللغة فعله جادَ يَجود جَوْدة ، وجاد الشيءُ جُودة أَي صار جَيِّدا ، والجَيِّد نقيض الرديء ، وقد جاد جَوْدة وأَجاد يعني أَتى بالجَيِّد من القول أَو الفعل ، والجود هو الكرم ، ورجل جَواد يعني سخيّ كثير العطاء ، والجود من المطر هو الذي لا مطر فوقه في الكثرة ، وفلان يَجُود بنفسه أَي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإِنسان ماله ويجود به ، وعند البخاري من حديث أُسَامَةَ رضى الله عنه قَالَ : ( كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ .. أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا : لِلَّهِ مَا أَخَذَ ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى ، كُلٌّ بِأَجَلٍ ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ ) (1) ، والذي يجود بنفسه عند الموت لا دخل له في إخراج الروح أو إبقائها وإنما ذلك لله عز وجل الذي يأمر ملائكته باستخراجها ، ولكن عبر بأنه يجود بنفسه تكريما له إذ لا حيلة في دفع الموت ، أو لرضاه بقدر الله واستعداده للقائه ورغبته في أن يلقى الله مؤمنا ، كما في حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضى الله عنه عند مسلم ( أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم وَهِىَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى ... إلى أن أقام عليه الحد فرجمت .. ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ تُصَلِّى عَلَيْهَا يَا نَبِىَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ فَقَالَ : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى ) (2) ، فالجود سهولة البذل والإنفاق وتجنب ما لا يحمد من الأخلاق ويكون بالعبادة والصلاح وبالسخاء والسماح (3).
والجواد أيضا جمع جادة والجادة الطريق الممهد ، أو سواء الطريق ووسطه ، أو الطريق الأعظم التي تجتمع الطرق عليه كما ورد عند مسلم من حديث عبد الله بْن سَلاَمٍ رضى الله عنه أنه قال : ( بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ لِي : قُمْ ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ قَالَ فَإِذَا أَنَا بِجَوَادَّ عَنْ شِمَالِي ، قَالَ : فَأَخَذْتُ لآخُذَ فِيهَا فَقَالَ لِي : لاَ تَأْخُذْ فِيهَا فَإِنَّهَا طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ ، قَالَ : فَإِذَا جَوَادُّ مَنْهَجٌ عَلَي يَمِيِنِي فَقَالَ لِي : خُذْ هَا هُنَا ، فَأَتَيْتُ النَّبِي صلى الله عليه و سلم فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ ، أَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِكَ فَهِي طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ ، قَالَ : وَأَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَمِينِكَ فَهِي طُرُقُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) (4) .
والجواد سبحانه هو الكامل في ذاته وصفاته والكثير في جوده وعطائه الذي يجود بفضله على سائر خلقه لا تنفد خزائنه ولا ينقطع عطائه ، وهو عليم بموضع جوده وعطائه ، فلا يعطي إلا لمن استحقه وعلى قدر مصلحته وما يحقق منفعته (5) ، وهو الذي يهدي عباده أجمعين إلى جادة الحق المبين ، هداهم إلى صلاحهم في الدنيا والآخرة بأن بين لهم طريقه المستقيم ودعاهم إليه ، قال تعالى : } وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ { [يونس:25] ، وقال سبحانه : } إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ { [هود:56] .
ويذكر ابن القيم أن الجواد سبحانه هو الذي له الجود كله ، وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها ، فمن رحمته سبحانه بعباده ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به فهو الغني الحميد ، ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه فهو الجواد الكريم ، ومن رحمته أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان ، فمنعهم ليعطيهم وابتلاهم ليعافيهم ، وأماتهم ليحييهم ، ومن رحمته بهم أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به ، فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به ، كما قال تعالى : } وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ { [آل عمران:30] ، قال غير واحد من السلف : من رأفته بالعباد حذرهم من نفسه لئلا يغتروا به (6).
الله جل جلاله السُّبوحُ :
والسبوح في اللغة من أبنية المبالغة على وزن فعُّول ، فعله سبح يَسبحُ تسبيحا وسَبَحَ في الكلام إِذا أَكثر فيه التَّسبيح والتنزيه ، وسبحانَ اللَّه معناه تنزيه الله من الصاحبة والولد ، وقيل معناه تنزيه اللَّه تعالى عن كل ما لا ينبغي أن يوصف به ، وجِماعُ معناه بُعْدُه تبارك وتعالى عن أَن يكون له شريك أَو ندّ أَو مِثيْلٌ أَو ضدّ ، وسبَّحْتُ اللَّه تسبيحاً وسُبْحاناً بمعنى واحد (7).
والسُبُّوحُ عز وجل هو الذي له أوصاف الكمال والجمال بلا نقص ، وله الأفعال المقدَّسة عن الشَّرَّ والسوء ، حيث يسْبحُ فيها قلبُ المُسَبِّح تذكُّرا وتفكُّرا فلا يرى إلا العظمةَ والبعدَ عن النَّقْص والشَّرّ ، فيقول ما أبْعَد الله عن السوء ، ثم يقطع مسافةً أو مَرْحَلةً أخرى في معرفةِ ومشاهدةِ الأَوْصَاف والأفعال فيزداد تعظيماً لله وتبعيدا له من السوء ، والقلب في ذلك يبتعد من الظلمات إلى النور ، ومن إرادة الشر إلى إرادة الخير ، ومن عَمَي القُلُوب وأَدْوَائها إلى نُورِها وشِفَائِها ، ومن فَسَادِها وَسَيْطرة الأهواء عليها إلى صَلاَحِها وسَيْطرة الوَحْي عليها (8) .
وعند مسلم من حديث أَبِى مُوسَى الأشعري رضى الله عنه أنه قَالَ : ( قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ .. وذكر منها .. حِجَابُهُ النُّورُ ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) (9) .
والسبوح سبحانه هو الذي سبح بحمده المسبحون قال تعالى : } إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ { [الأعراف:206] ، وقال : } دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ { [يونس:10] ، وقال : } تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً { [الإسراء:44] ، وقال سبحانه : } سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ { [الصافات:180] .
الله جل جلاله الوَارِثُ :
الوارث اسم فاعل للموصوف بالوراثة من غيره ، فعله ورث يرث ورثا وإرثا ووراثة ، والوراثة في حقنا انتقال المال أو الملك من المتقدم إلى المتأخر ، ومنه وارث مال الميت الذي يملك تركته ووارث الملك يرث سلطانه .
والوارث سبحانه هو الباقي وغيره هالك فان ، والخلائق يتعاقبون على الأرض ، فيرث المتأخر المتقدم ، والولد والده ، ويستمر التوارث حتى ينقطع حبل الحياة ، ولا يبقى في الأخير غير الله الوارث الكبير ، فالوارث سبحانه هو الباقي بعد فناء الخلق ، أو الوارث لجميع الأشياء بعد فناء أهلها ، قال تعالى : } وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ { [آل عمران:180] } وَمَا لكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ { [الحديد:10] ، وقد تحدثنا في اسم الله الآخر أن بقاء المخلوقات في الجنة لا يعني أنها تشارك الله في البقاء ، وكذلك فإنها لا تتعارض مع اسم الله الوارث ، لأن خلد الجنة وأهلها إلى ما لا نهاية إنما هو بإبقاء الله وإرادته ، فالبقاء عندهم ليس من طبيعة المخلوقات ولا من خصائصها الذاتية ، بل من طبيعتها جميعا الفناء ، أما صفات الله عز وجل فهي صفات باقية ببقائه ملازمة لذاته باقية ببقاء ذاته سبحانه وتعالى لأن البقاء صفة ذاتية له فهو الوارث لجميع الخلائق في الدنيا والآخرة .
الله جل جلاله الرَّبُّ :
ثبت الاسم في القرآن والسنة ، فقد سمى الله عز وجل نفسه بالرب على سبيل الإطلاق والإضافة ، وكذلك سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فالإطلاق كما ورد في قوله تعالى : ( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) [يس:58] ، وكقوله تعالى : ( بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور ٌ{ [سبأ:15] ، وفي السنة ما رواه مسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ ) (1) .
وعند الترمذي وقال حسن صحيح ، من حديث عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ في جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ ) (2) .
وقد ورد الاسم في السنة أيضا في مواضع كثيرة ، منها ما ورد عند البخاري من حديث مالكِ بنِ صَعْصَعةَ رضي الله عنه أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال : ( فأتيتُ على موسى ؛ فسلمت عليه فقال : مَرحباً بكَ من أخ ونبيّ ، فلما جاوَزتُ بكى فقيل : ما أبكاك ؟ قال : يا رب ، هذا الغلامُ الذي بُعِثَ بعدي ؛ يَدخُل الجنةَ من أُمَّتهِ أفضلُ ممّا يدخلُ من أمَّتي ) (3) ؛ فالأدلة كثيرة على أن الرب اسم من أسماء الله الحسنى ؛ سمى الله به نفسه في كتابه وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتمعت فيه شروط الحصر .
الله جل جلاله الأعْلى :
ورد اسم الله الأعلى في القرآن والسنة مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، كما في قوله تعالى : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) [الأعلى:1] ، ففي هذا الموضع ورد معرفا مطلقا مسندا إليه المعنى محمولا عليه في قوله : ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ) [الأعلى: 2] ، وقد ورد الاسم أيضا في قوله : ( وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ) [الليل:20] .
وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قَالَ : ( صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ .. إلى أن قال : ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ : سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى ) (4) ، وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه : ( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَرَأَ : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى قَالَ : سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى ) (5) .
الله جل جلاله الإِلَهُ :
سمى الله نفسه بالإله على سبيل الإطلاق والإضافة مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في القرآن والسنة ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما جاء في قوله تعالى : ( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) [البقرة:163] ؛ حيث ورد فيها الإطلاق والإضافة معا ، ومن جهة العلمية اللغوية فقد ورد الاسم منونا مجرورا في قوله تعالى : ( وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلا إِلهٌ وَاحِدٌ ) [المائدة:73] ، وقال الإمام البخاري : ( باب ما يُذكرُ في الذّاتِ والنُّعوتِ وأسامي الله عز وجلّ وقال خُبيب : وذلك في ذاتِ الإِله ، فذكر الذاتَ باسمِهِ تعالى ) (6) ، وهو يشير إلى حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه في قصة خبيبٌ الأنصاريُّ رضي الله عنه لما قال قبل قتله وهو في الأسر بعد أن صلى ركعتين :
ولستُ أبالي حينَ أُقتلُ مسلماً : على أيِّ شِقٍّ كان لِلهِ مصرعي
وذلك في ذات الإِلهِ وإنْ يَشا : يُباركْ على أوصالِ شِلوٍ مُمزَّع
فقتله ابنُ الحارث ، فأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه خَبرَهم يومَ أُصيبوا ) (7) ، قال ابن حجر : ( وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره فكان جائزا ) (8) .
وقد ورد الاسم مضافا مقيدا في آيات كثيرة كقوله تعالى : ( نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لهُ مُسْلمُونَ ) [البقرة:133] .
وعند البخاري من حديث عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنه قال : كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدعو منَ الليل : ( اللهمَّ لك أَسلمتُ ، وبكَ آمنتُ ، وعليكَ توكلت ، وإليك أَنَبْتُ ، وبك خاصمتُ ، وإليك حاكمتُ ، فاغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ ، وأسرَرْت وأعلنت ، أنتَ إلهي لا إلهَ لي غيرك )
الله جل جلاله الرَّبُّ :
الرب في اللغة مصدر مستعار للفاعل فعله رب يرب ربوبية أو ربى يربي تربية ، والرب هو الذي يربي غيره وينشئه شيئا فشيئا ، ويُطْلقُ على المالِك ، والسَّيِّد المُدَبَّر ، والمُرَبِّي ، والقَيِّم ، والمُنْعِم ، ولا يُطلَقُ غيرَ مُضاف إلاَّ عَلَى الله تعالى ، وإذا أُطلِقَ على غَيره أُضِيف ؛ فيقال : رَبُّ كذا ، تقول : هذا رب الإبل ، ورب الدار ، أي مالكها ، ويطلق أيضا على السيد المطاع ، ومنه قوله تعالى : } أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا { ، أي سيده المطاع ، ويطلق الرب أيضا على المعبود ومنه قول الشاعر : أرب يبول الثعلبان برأسه * لقد ذل من بالت عليه الثعالب .
فوصف الرب من الناحية اللغوية يكون لمن أنشأ الشيء حالا فحالا إلي حد التمام أو قام على إصلاح شئون الغير وتولى أمره بانتظام (1) .
والرب سبحانه وتعالى هو المتكفل بخلق الموجودات وإنشائها والقائم علي هدايتها وإصلاحها وهو الذي نظم معيشتها ودبر أمرها ، ودليل هذا المعنى ما ورد في قوله تعالى : } إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يُغْشِي الليْل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لهُ الخَلقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ { [الأعراف:54] ؛ فربنا تبارك وتعالى هو المتكفل بالخلائق أجمعين إيجادا وإمدادا ورعاية وقياما على كل نفس بما كسبت ، قال تعالى : } أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى كُل نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ { [الرعد:33] ، وقال : } إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلئِنْ زَالتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَليماً غَفُوراً { [فاطر:41] .
وتوحيد الله بالربوبية في القرآن يقوم على ركنين اثنين وردا في آيات كثيرة ، أحدهما إفراد الله بالخلق والثاني إفراده بالأمر وتدبير ما خلق ، كما قال تعالى عن موسى عليه السلام هو يبين حقيقة الربوبية ومعناها لما سأله فرعون عنها : } قَال فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَال رَبُّنَا الذِي أَعْطَى كُل شَيْءٍ خَلقَهُ ثُمَّ هَدَى { ، فالآية دلالتها صريحة على أن موسى عليه السلام لما سئل عن الربوبية أجاب فرعون بحصر معانيها في معنيين جامعين ، الأول : إفراد الله بتخليق الأشياء وتكوينها وإنشائها من العدم حيث أعطى كل شيء خلقه وكمال وجوده ، والثاني : إفراد الله بتدبير الأمر في خلقه كهدايتهم والقيام على شؤونهم وتصريف أحوالهم والعناية بهم ؛ فهو سبحانه الذي توكل بالخلائق أجمعين قال تعالى : } اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُل شَيْءٍ وَكِيل ، لهُ مَقَاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ { [الزمر:63] (2) .
الله جل جلاله الأعْلى :
الأعلى في اللغة من صيغ أفعل التفضيل ، فعله علا يعلو علوا ، فالأعلى هو الذي ارتفع عن غيره وفاقه في وصفه ، وهي مفاضلة بين اثنين أو الجميع في عظمة الوصف أو بين صاحب العلو والأعلى منه ، فالأعلى ذو العلا والعلاء والمعالي (3) ، قال تعالى : } وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ { [النحل:60] ، وقال : } وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ { [الروم:27] .
قال الألوسي : ( وله المثل الأعلى أي الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلو مطلقا ، وهو الوجوب الذاتي ، والغنى المطلق ، والجود الواسع ، والنزاهة عن صفات المخلوقين ، ويدخل فيه علوه تعالى عما يقول علوا كبيرا ) (4) .
واسم الله الأعلى دل على علو الشأن وهو أحد معاني العلو ، فالله عز وجل تعالي عن جميع النقائص والعيوب المنافية لإلهيته وربوبيته ، وتعالي في أحديته عن الشريك والظهير والولي والنصير ، وتعالى في عظمته عن الشفيع دون إذن أو خضوع ، وتعالى في صمديته عن الصاحبة والولد ، وأن يكون له كفوا أحد ، تعالي في كمال حياته وقيوميته عن السنة والنوم ، وتعالي في كمال وقدرته وحكمته عن العبث والظلم ، وتعالي في كمال علمه عن الغفلة والنسيان ، وعن ترك الخلق سدي دون غاية لخلق الجن والإنسان ، وتعالي في كمال غناه يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ويرزُق ولا يُرزَق ، بل هو على كل شيء قدير ، وكل شيء إليه فقير ، وكل أمر عليه يسير ، لا يحتاج إلى شيء ، } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { ، تعالي في صفات كماله ونعوت جلاله عن التعطيل والتمثيل ، قال تعالي : } هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً { [مريم:65] (5) .
والله عز وجل يجوز في حقه قياس الأولي بدليل قوله : } وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ { [النحل:60] ، فإنه من المعلوم أن كل كمال أو نعت ممدوح لنفسه لا نقص فيه يكون لبعض الموجودات المخلوقة المحدثة ، فالرب الخالق الصمد القيوم هو أولى به ، وكل نقص أو عيب يجب أن ينزه عنه بعض المخلوقات المحدثة المكنة فالرب الخالق القدوس السلام هو أولى أن ينزه عنه (6) .
قال ابن تيمية : ( ولهذا كانت الطريقة النبوية السلفية أن يستعمل في العلوم الإلهية قياس الأولى ، كما قال الله تعالى : } وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى { ، إذ لا يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية تستوي أفرادها ، ولا يتماثلان في شيء من الأشياء ، بل يعلم أن كل كمال لا نقص فيه بوجه ثبت للمخلوق فالخالق أولى به ، وكل نقص وجب نفيه عن المخلوق فالخالق أولى بنفيه عنه ) (7) ، فقياس الأولى جائز في حق الله وأسمائه وصفاته وأفعاله .
أما المحرم الممنوع فهو قياس التمثيل والشمول ، لأن قياس التمثيل هو إلحاق فرع بأصل في حكم جامع لعلة (8) ، فالممثل جعل صفة الإنسان التي لا يعرف غيرها أصلا ، وجعل صفة اللَّه التي دلت عليها النصوص فرعا ، ثم طابق الفرع على الأصل وحكم بينهما بالتماثل ، وهذا باطل لا يصح في قياس ما هو غيبي على المشهود المرئي ، والممثل لأوصاف اللَّه بأوصاف البشر من خلال هذا القياس ظالم لنفسه متقول على ربه ، فهو في الحقيقة تخيل في ذهنه أن صفة اللَّه الواردة في نصوص الكتاب والسنة كصورة إنسان من البشر ، وعظمها له الشيطان فعبدها على أنها المقصود عند ذكره لأوصاف اللَّه ، وهو في حقيقة أمره إنما يعبد صنما ، ولذلك قال ابن تيمية في وصف حال الممثل : الممثل يعبد صنما (9) .
أما النوع الثاني من القياس المحرم فهو قياس الشمول ، وهو القانون الشامل أو الأحكام العامة التي تطبق على جميع الأفراد ، أو كما عرفوه بأنه قياس كلي على جزئ ، فالمكيف أو المشبه الذي يستخدم قياس الشمول جعل الكيفية التي تحكم أوصاف الإنسان قانونا يحكم به على أوصاف الله (10) ، كقوله : لو كان اللَّه متصفا بالكلام لكان له فم ولسان ، لأنه لم ير المتكلم في أحكام الدنيا إلا على هذه الكيفية وكقوله : لو كان على العرش لكان محمولا ، فطبق قانون الجاذبية الأرضية على كيفية استواء الخالق كما يطبقها على استواء الإنسان أو حمله للأشياء .
ومعلوم أن صاحب الفطرة السليمة يأبى أن يقال مثل هذا في أوصاف اللَّه ، بل يعلم أن هذه الأحكام ربما لا تطبق على الإنسان خارج نطاق الجاذبية الأرضية ، مثل أماكن انعدام الوزن أو المحطات الفضائية ، أو ربما يسمع صوتا من غير فم أو لسان كما يري المسجل يعيد الصوت ويكرره كأنه إنسان ، وإذا قيل : لا يدخل قاعة الاختبار في الكلية إلا طلاب السنة النهائية علم العقلاء أن ذلك لا ينطبق على الأساتذة المراقبين أو القائمين على النواحي الإدارية ، وإذا قيل : لا يدخل المصنع إلا العاملون علمنا أن ذلك لا ينطبق على صاحب المصنع ومن رافقه ، وهكذا يعلم العقلاء وأصحاب الفطرة السليمة أن القوانين التي تحكم أوصاف البشر لا تنطبق على رب البشر ، وأن اللَّه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته وأفعاله ، وهو الأعلى المتوحد في وصفه ، وعلى ذلك يلزم الاحتراز من استخدام هذين النوعين من القياس في حق اللَّه ، قياس التمثيل وقياس الشمول ، لأن النتيجة المترتبة على استخدام الممثل لقياس التمثيل واستخدام المكيف المشبه لقياس الشمول هي تعطيل العلم الصحيح بأوصاف الحق التي وردت في نصوص الكتاب والسنة تحت ادعاء دلالة النص على التمثيل والتشبيه ، ولذا قال ابن تيمية : كل ممثل معطل (11) ، لأنه عطل الصفة الحقيقية لله عز وجل ، فالتمثيل والتشبيه افتراء على اللَّه سبحانه وتعالي حيث ادعي في وصف اللَّه ما لا علم له به ، وزعم أن أوصاف اللَّه تشبه أوصاف البشر ، وهي في الحقيقة ليست كذلك وقد حرم اللَّه عز وجل القول عليه بلا علم فقال تعالى : } وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا { [الإسراء:36] ، وقال أيضا : } قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا على اللَّه مَا لا تَعْلَمُونَ { [الأعراف:33] .
الله جل جلاله الإِلَهُ :
الإله في اللغة ، فعله أَلَهَ يألَهُ إلاهَة أي عبد ، والإله هو الله عز وجل ، وكل ما اتخذ من دونه معبوداً إِلهٌ عند متخذه ، والجمع آلِهَةٌ ، والآلِهَةُ الأَصنام سموا بذلك لاعتقادهم أَن العبادة تَحُقُّ لها ، ومنه قرأ ابن عباس رضي الله عنهما : ( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (الأعراف:127) وإلاهَتَكَ بكسر الهمزة أي وعبادتك ، وكان يقول إن فرعون كان يُعبد ، ومنه قولنا : الله ، وأصله إلاهٌ على فعال بمعنى مفعول لأنه مألوه أي معبود ، كقولنا إمام بمعنى مؤتم به ، فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفا لكثرته في الكلام (12) .
والإله عند السلف هو المعبود بحق ، المستحق للعبادة وحده دون غيره ، وقد قامت كلمة التوحيد في الإسلام على معني الألوهية ، قال ابن تيمية : ( لا إله إلا أنت فيه إثبات انفراده بالإلهية ، والألوهية تتضمن كمال علمه وقدرته ، ورحمته وحكمته ، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد ، فإن الإله هو المألوه ، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد ، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزمك أن يكون هو المحبوب غاية الحب ، المخضوع له غاية الخضوع ، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية ) (13) .
واسم الإله يختلف في معناه عن اسم الرب في كثير من النواحي ، فالرب معناه يعود إلى الانفراد بالخلق والتدبير ، أما الإله فهو المستحق للعبادة ؛ المألوه الذي تعظمه القلوب ، وتخضع له وتعبده عن محبة وتعظيم وطاعة وتسليم ، ولذلك كان التوحيد الذي أمر الله عز وجل به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية بأن يعبد الله وحده لا يشركون به شيئا ، فيكون الدين كله لله ، ولا يخاف العبد إلا الله ، ولا يدعو أحدا إلا الله ، ويكون الله أحب إليه من كل شيء ؛ فالموحدون يحبون لله ويبغضون لله ويعبدون الله ويتوكلون عليه (14) .
أما من يجعل توحيد الألوهية مقصورا على إفراد الله بالخالقية ، فقد سلك طريق المتكلمين والجهمية ، الذين جعلوا غاية توحيد الألوهية إثبات وجود الصانع بالأدلة العقيلة ، وما يجب له من الصفات المعنوية أو يجوز أو يستحيل في حقه ، وقد بين الله عز وجل أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ، وكانوا يعتقدون أن الله خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم ، كما قال سبحانه وتعالى في شأنهم : } وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون { [العنكبوت:61] ، لكنهم مع ذلك كانوا يشركون به .
|